أنفس تحمل السر

قياسي

قبل فترة من الزمن، انتشر كتاب “السر” لروندا بايرن بطريقة ڤيروسية في أنحاء العالم، وحقق أرباحًا عالية جعلت مؤلفته تطرح المفهوم ذاته بأشكال مختلفة، سواءً أكان ذلك بصياغة كتاب السر ككتاب صوتي أو فيديو وثائقي، أو كان بطرح مؤلفات جديدة تعني بهذا المفهوم متمثلة في كتابيها التاليين “القوة” و”السحر”. كل الكتب الثلاثة وانعكاساتها تهتم أولًا وأخيرًا بما يسمى بـ(قانون الجذب)، القائل بأن العالم سيلبي لنا كل احتياجاتنا ورغباتنا شريطة إيماننا بها حد الثمالة.
شخصيًا ؛ أنا لا أعتقد بقانون الجذب على هذه الطريقة التي نشرتها السيدة روندا بايرن، أنا أؤمن بأن عالمنا المحايد يتشبع بكل الفرص والمنح، وكل ما علينا هو رؤيتها واقتناصها فقط، وهذا هو ما يفعله إيماننا الشديد بفكرة ما وتدويرها في أذهاننا على الدوام، يساعدنا على رؤيتها باختصار.
فهو ليس بقانون جذب أصلًا، وتسميته بهذه التسمية خاطئة وتمنحه ماهية ليست له، ففرصنا منتشرة من حولنا بالفعل، ونحن لا نجذبها إلينا، نحن فقط نشعر بها. الموضوع كله يبدو مشابهًا لقصيدة “فلسفة الحياة” للشاعر إيليا أبوماضي، والتي ينهيها بقوله : “كل جميلًا ترى الوجود جميلًا”.
باختصار ؛ أرضنا محايدة لا تنجذب إلى أحد، تمنح فرصها علانية للجميع، تقتنص بعضها ويمر ببعضها أناس لا يعيروها اهتمامًا فتنتهي بدورها .. هذا كل ما في الموضوع.
هل جريتم زيارة بلد ما، امتلأت رؤوسكم بفكرة ما عن أهاليها، لتكتشفوا بالتجربة أن أهاليها مخالفين تمامًا للتصور الذي كان عنهم ؟ أعتقد بأن الذي يعامل الناس باعتقاد لصوصيتهم سينتهي به الحال مسروقًا، والذي يعاملهم باعتقاد ميلهم للرذيلة سيجعله ذلك ملاحظًا لكل ما يدعم قوله .. “كن جميلًا ترى الوجود جميلًا”.
أحيانًا نقرأ كتابًا آملين جوابًا لأحد أسئلتنا، ونجد جوابًا قد يكون خلاف مراد الكاتب، وقد ينال على رضانا ذاك الكاتب والكتاب فقط لأننا وجدنا إجابته مقنعة، وقد يكون نصيبه السخط إن لم نجد جوابنا، حتى وإن كان ذاك الكتاب لا يعني بسؤالنا أصلًا .. هذا ما تفعله انتماءتنا الشديدة لأفكارنا برأيي، والتي قد تنتهي تعديًا على رأي كاتب أو تشويهًا لآخر. وهذا ما تفعله بنا قراءة أفكار الآخرين بمنظور أفكارنا.
“كن جميلًا ترى الوجود جميلًا” ..!

خاطرة مبعثرة (٠٣) – حزين الطريق الحجري

قياسي

لا تخلو هذه المدينة من الأحزان .. تتشربها .. تعيشها في كل تفاصيلها. يخيّل إلي أحيانًا بأن أناسها لا يعترفون بيوم بلا حزن وألم، معتقدين بأن ذلك يصنع أيامهم، رغم مرارة المذاق.
كنت غريبًا عن تلك المدينة، حديث عهد بالأحزان. كنت معتادًا قبلها على ارتماءاتي في أحضان أمي، كلما شاغلني شاغل أو أهمني هم ما، وكانت هي تستقبليني بكل دفء، وحنية. تطمئنني بتربيتاتها على كتفي، تخبئني بين ذراعيها، وتهمس في أذني بأقترب أكثر من قلبي. كان انشغالها عني وسط خوفي مطمئنًا، وابتسامتها تحكي الكثير، وتخبرني عن الأمل، وكل ما يحتاجه واقفٌ على قدميه.
ولكل شيء نهايته ؛ فلم أكن لأنسى اليوم الذي أقلقها فيه ما أقلقني، بحثت عن ابتسامتها أحاكيها، فلا أنا سمعت منها كلمة، ولا أبصرت بسمتها .. وكان علي تقبل الأمر، رغم الخوف الذي اعتصرني، فهذه همومي تكبر بشكل مرعب.
خفت أن أكون كسرت لها ابتسامتها بكل أنانية، فنهضت متحاملًا آلامي، مثخنًا بالمخاوف، متصنعًا سلامتي مما رماني بادئ الأمر، ابتسمت أولى ابتساماتي الكاذبة، وهربت متصنعًا مرحًا في هروبي !
جربت الهروب إلى الورق، جربت كتابة كل الألم. فكرت بأن أترك مُرة أوراقي للزمن، يسرقها ويجفف معانيها. فكرت بأن أرميها في طريق أحدهم، يكون جاهلًا بي وبما هو عني، وأنا أستشف على ثغره لا مبالاته وابتسامته الباردة. حاولت تجاهل ذلك، مصبرًا نفسي بأنني أنشئ مدرسة جديدة في البوح، فلم أفلح، ولم أؤمن بتلك المدرسة .. فلم تناسبني البتة. وكانت أحزاني تصرخ في رأسي بعشوائية وغوغائية، راجية مني كتابة كلماتها، فلم أكتب ما يفهم، وكان تزاحمها يخنقني أكثر فأكثر.
جربت البكاء للبحر، الصراخ لأصم الحجر، والبوح لأعمق الحفر .. فلم أعرف محادثة من لا يحادثني.
جربت تصنع القوة، وكذب الابتسامات، فعرفت بأني كنت أكدس أحزاني فوق بعضها، ولا أترك لها حرية للتعبير .. وكان ذلك يقتلني ببطء، ويسرق ابتسامتي.
نصحني أحدهم بأن أعمد إلى قاعدة “فرق تسد”، وأخبرني بأنه من المجدي تفكيك الأحزان إلى أمور غير مهمة. فلم أعد أحفل بتلك الأمور، وترفعت عنها، وظلت تنهشني كما كانت تفعل مجتمعة.
نصحني آخر بمعايشة تلك الأحزان كما تريد هي، بأن أمشي في طريقها الذي اختارته لي، وأتركها تأكلني وتأكل أيامي .. فلم أطق ذلك.
نصحني غيره كثير وسمعت أقوالهم، واختلفت آراؤهم فتشاحنوا فيما بينهم، وصار صراعهم إثبات لأنفسهم، وبقيت أنا مع أحزاني، أبكي نفسي، وتبكيني أيامي.
قرأت مرة كتابًا لـ”واسيني الأعرج”، افتتحه بكلمات قال فيها : “إن الكتابة ليست مجرد أحاسيس هاربة مرتبطة باللحظة، ولمنها رؤية وحرقة تلتصق بالجسد إلى الأبد، وتحمله أحيانًا إلى ما طاقة له به”. خرجت وقتها ومشيت على طريق حجري طويل، تخبرك المياه بين أحجاره عن قرب عهده بالسماء. مشيت بحزن تنعيني شمسه الغائبة، بشيء من الدموع والقصص. ترتكز على جنباته أرفف ودكاكين، حياني عجوز يكنس باب أحدها، فلم يجد ردًا، ظن بأنني تجاهلته، إلا أنني كنت غارقًا لحظتها في ابتسامة صديق على قارعة الطريق، يخبرني بها بأنه يتفهم ملامحي المتصلبة، يحكي بها عن صمته تقديسًا لحزني أيامًا، ويقول لي بأن أرمي على أقدامه أحزاني، وبأن أنم للحظة هانئًا.


هي رسالة شكر لأقرب الأصدقاء إلى نفسي. واعتراف بسبب كتماني بعض الأسرار عمن أحب.

القيادة عندي

قياسي

وقف على تلك المنصة المزينة بصوره الشخصية، مكتوب عليها اسمه بخطوط عريضة. نظر إلى الجمع الذي أحدثه خبر إلقائه خطابًا لليوم، لم يبد مستغربًا تلك الحشود التي جمعتها كلماته الرنانة وخطبه الصداحة. سمع أحدهم يحادث زميله بأن جارتهم ذبحت ابنًا لها البارحة لما رأت منه من معارضة لزعيمهم هذا، فابتسم بدوره ابتسامة تتشبع زهوًا وغرورًا، والتفت إلى صديق له يقف خلفه قائلاً : “أنا صانع هذه الازدحامات، كلهم أولاء جمعتهم كلماتي. أنا صانع الشعب وصانع حياتهم، أنا فكرتهم وتفكيرهم، أنا مستقبلهم ومصيرهم”.

قد تبدو هذه الكلمات مثيرة للاشمئزاز عند قراءتها، إلا أن قائلها هذا يمثل للبعض -إلى الآن- قدوة بشكل أو بآخر، ولا يزال الكثير يعتبرونه رمزًا في القيادة والخطابة. وبعيدًا عن أهداف (أدولف هتلر) الحمقاء في نظري، يسرني إخباركم بأنني أيضًا غير مقتنع به كقائد حتى .. ليست هذه القيادة التي أعرف.

في نظري ؛ القائد الحقيقي لا يعطي شعبه فكرة ولا يقنعهم بتصوراته وقناعاته الشخصية، مستخدمًا موهبته الخطابية، ومهاراته في الإقناع. فهو ينطلق من منطلقاتهم واعتقاداتهم، ولا يحتاج أصلاً إلى استخدام مهاراته في الإقناع عليهم. القائد لا يبحث عن الأضواء، ولا يترقب الفلاشات ولا ينتظرها، ولا يضع نفسه في واجهة كل الأعمال والحركات، فكل ما عليه هو أن يدع شعبه ويدعوهم إلى سكب كل ما بجعبتهم من مهارات وأفكار لتزهر طرقات المدينة.

وشخصيًا ؛ أعتقد بأن (المهاتيما غاندي) أكثر قيادية من (أدولف هتلر)، وأحب دعم تفضيلي بمقولة المهاتيما : “لم أحرص على تعلم الشطرنج ولم أحب ذلك، لأنني لم أفهم كيف يموت الجنود والجيش بأجمع في سبيل حياة الملك”.

من الخطأ أن تكون هناك فجوة بين الشعب والسلطة، أو أن تكون السلطة موجهة للشعب.

خرافة الإنسان السوي

قياسي


كان منظره مثيرًا للسخرية ؛ بشعره الذي يبدو وكأنه لم يعرف مشطًا قط، وملابسة المقلمة غير متناسقة الألوان، وعينيه اللتان تنظران ببلاهة إلى اللاشيء، وكأنها تبحث عن شيء ما غير موجود أصلًا . كثيرًا ما كانت تعترضه كلمة ساخرة أو تعليقًا مضحكًا على شكله أو على أحد تصرفاته، لكنه لم يكن يعير ذلك اهتمامًا، أو بالأصح .. لم يكن يعلم بأمر تلك الكلمة أو الضحكات، فقد كان يفكر في أمرٍ مغاير تمامًا يسلبه تفكيره وتركيزه. سأله بعض الأصدقاء بشيءٍ من الحرج عن ملابسه التي لا يغيرها بتاتًا، فكانت إجابهم منظر الدولاب الممتلئ بملابس متشابهة، ترافقها ابتسامته الهادئة وإجابته بأنه لا يمتلك وقتًا يصرفه في اختياره الملابس.

في أرضٍ أخرى وزمن آخرٍ ؛ كان هناك رجل يحتسي قهوته الصباحية بشيء من العصبية، يتأفف مرارًا ويتمتم ببعض الشتائم الصبيانية، كان يقلب فكرته المجنونة التي يؤمن بها حد الثمالة في تفاصيلها ؛ (فكرة التخلي عن النوم)، ظل يفكر في حلٍ لـ “عائق النوم” أو “مشكلة النوم” كما يحب تسميتها، ظل يفكر في تلك اللقاءات التي فوتها بسبب النوم عنها، وفي تلك الأوقات التي أضاعها منتظرًا شخصًا كان نائمًا عنها، ظل يفكر في كمية الأوقات التي أضاعها والإنجازات التي حرم نفسه منها “لأنني كنت نائمًا” .. تمتم بسخط.

من الطريف بأن كرهه الجنوني هذا هو ما قاده للعزلة التي صرفها في قبو بيته محاولاً قتل النوم والاحتياج إليه، متجاهلاً أولئك الذين يطرقون بابه مستفسرين عن عزلته ذعرين، وعادة ما ينصرفون وعلى ثغرهم ابتسامات ساخرة وضحكات مكتومة، والتي لم يلحظها صاحبنا بدوره لانشغاله باختراع ذاك المجسم الغريب الذي كان يجري به بعدها بأيام، صائحًا بأنه فعلها، مطلقًا على نفسه اسم “أديسون قاهر النوم مخترع المصباح”.

ولا أعتقد بأنه كان غريبًا إن علمنا بأن صديقنا الأول لم يكن إلا “آينشتاين” الشهير بإهماله للشكليات، بل وببعض التصرفات والقرارات الخاطئة في مجالات أخرى غير علمية بحتة. لكنه يبقى آينشتاين العظيم بنظرياته واستفساراته وبحوثة التي يصعب قراءتها، والتي بدورها شكلت ثورة علمية ملحوظة الأثر في يومنا الحالي.

أحيانًا أتخيل أيام أولئك الذين أحدثوا تغييرات ملحوظة ؛ سرحانهم المفاجئ واعتذاراتهم لمحدثيهم الذين يطالبونهم ببعض الاهتمام أو الانتباه، أو انسحابهم بشكل مفاجئ من الحفلات والتجمعات، ليدونوا أمورًا خطرت ببالهم. انعزالاتهم المفاجئة، والضحكات التي ألفوها لأن عزلتهم الطويلة لم يكن لها أي ناتج فعلي. وأحيانًا نظرتهم إلى رجلٍ مهندم وتمنياتهم بأن يكونوا بمثل حسنه ولباقته، وخروجهم بعض الأحيان بلباس يعتقدون حسنها إلا أنها تبدو مثيرة للسخرية في أعين الغير. حزنهم على أنفسهم لما ينقصهم من مهارات في التواصل تفقدهم أصدقاءهم بمرور الأيام، وفشلهم الذريع في ترتيب “جملة مفيدة” كما وصفه أحدهم ضاحكًا، وعجزهم عن التواصل مع غيرهم وإيصال فكرة عما يبتغون إيصاله من الأفكار أو التصورات.

أعتقد بأننا -كعرب خصوصًا- لا نحسن التعامل مع هؤلاء الغريبين في تصرفاتهم أو طرق تفكيرهم، وأعتقد بأننا نقتل فيهم اختلافهم الذي أنتج إبداعهم. أعتقد بأننا نحرم أنفسنا من هؤلاء الغرباء ومن النتائج التي يعدونا بها.

أعتقد بأننا نختلق هدفًا غير قابل للتحقيق، نطلق عليه “الإنسان السوي” ؛ بعض التصرفات وبعض الطرق في المعيشة التي تجعلنا في نهاية الأمر مجرد أناس عاديين، وتحرم البعض طريقتهم الغريبة في الحياة، فقط لأنها غير لائقة ..!

ادعموا غرابتكم، وغرباءكم ..!

الكل يتآمر علينا

قياسي

سألت مرة متهكمًا ؛ “هل فعلاً نستحق هذا التآمر من الجميع علينا ؟”

وأعتقد بأنه بدا واضحًا في سؤالي ضمنية قناعتي بصبيانية نظرية المؤامرة، بل وإيماني بانعدام تأثيرها على أيامنا.

يقول القائد النازي الشهير (أدولف هتلر) : “إذا ما أردت توحيد صفوف شعبك خلفك، فأوهمهم بأن هناك عدوًا يتصيدهم، وأخبرهم بأنك ستقاتل إلى جانبهم”، ويكفي القول بأن كلماته أضحت أسلوبًا لاكتساب الشعبية ومساندة الأغلبية، تكملها مقولته الأخرى : “اكذب كذبة كبيرة، واجعلها بسيطة، وداوم على ترديدها، وسيصدقها الناس في نهاية المطاف”.

وبالفعل ؛ فكل من يبغي لفكرته ترويجًا يعمد إلى هذا الأسلوب ؛ تخويف الإسلاميين من العري والنتائج البشعة التي يعد بها الليبراليين، أو ترديد الليبراليين للقمع المتوقع وللاستبداد الديني الذي يُقرأ في خطوات الإسلاميين، يتبع ذلك استشهاد كل طرف بأقوال المتشددين في الطرف الآخر لدعم رأيه. وعلى الصعيد العالمي نلحظ التخويف المستمر الذي تبنته الولايات الأمريكية المتحدة من الاتحاد السوفيتي سابقًا، ومن الحركات الإرهابية في الوقت الحالي .. الكل في النهاية يريد أن يشرعن وسيلته وغايته، أو أن يخفف التركيز على أخطائه وتعدياته بالتركيز على أخطاءٍ كبيرةٍ لأطراف أخرى، ناشرًا بذلك نظرية المؤامرة، مغذيًا إياها.

تذكروا بأن “الطريق إلى جهنم محفوف بالنوايا الحسنة”.

في النهاية ؛ كل من يقف على مسرح الحياة معرض للخطأ، ولاستخدام مثل هذه الوسائل والأساليب ؛ الدولة التي تخوف سكانها من الدولة الأخرى، التنظيمات، الأفكار، الأحزاب، الرموز .. والقائمة تطول !

أحيانًا أفكر فيما لو خفيت عني مؤامرات الغير، فهل سيكون ضرر اخفائها أكبر أم إعلانها وتأهبنا لما لم يحدث بعد ؟ أحيانًا أعتقد بأن غرقنا في تفاصيل الغد حرمتنا من معايشة اليوم ومتعتها، بل وإنه يقنعنا خفية بأن ننتظر المستقبل الذي يصنعه بنا غيرنا، وحرمنا ذلك صناعة مستقبلنا بأنفسنا. حتى الأفكار الراقية التي عرفناها فقدت معانيها، بل ويخيل إلي أحيانًا أننا معرفتنا بغيرنا صارت أقوى من معرفتنا أنفسنا، صرنا نتعرف أخطاء غيرنا أكثر مما نعرف مكامن قوتنا .. فضلاً عن التشنج الدائم لانتظارنا المصائب، وعن العقلية القتالية التي اكتسبناها.

ونتيجة للعرض المستمر للأشكال المتطرفة من عالمنا، فقدنا قيمتنا باختلافنا عن بعضنا، أصبح الجميع يريد أن يكون الجميع نسخًا عن بعضهم، وقد يقبل بعض الاختلافات الطفيفة أحيانًا بداعي التحضر.

أحيانًا أعتقد بأنه لا يتآمر علينا غيرنا ..!

تقبلوا عمن حولكم اختلافاتهم عنكم، مهما كانت جوهرية أو طفيفة، واتركوا دعاة الكراهية والمؤامرة يغرقون وحدهم في بحرٍ وهميٍ هم حفروه .. وركزوا على طريقكم في مبادئكم، وعلى طريقتكم في حياتكم !

أرقام خضراء

قياسي

يقص الدكتور غازي القصيبي في كتابه الأشهر (حياة في الإدارة)، قصته مع أول محاولة رشوة تعرض لها ؛ ما لفت انتباهي الشخصي في كل القصة كان توابعها ؛ “فور عودتي إلى المنزل قلت لزوجتي : عندي خبر عجيب ؛ أضعت اليوم مليوني ريال !، أدركت زوجتي على الفور ما حدث، وقالت : لا يهم، لا أعتقد بأننا سنموت جوعاً” أ.هـ.

بعيداً عن الرقم الذي كان يخزنه الكاتب في حسابه المصرفي، والذي يقسم بدوره بأنه لم يكن يتجاوز عشارات الآلاف من الريالات، وبعيداً عن بقية تفاصيل حياته المادية ؛ فالرد الأخير أخذ بيد تفكيري ليسرح به في خيالات كل الماديات التي طمحت إليها يوماً، حول الأموال التي سأبعثرها إن أنا تملكت مبلغاً كبيراً من المال، أقرب منه إلى اللانهائية منه إلى الأرقام التي نعرفها. تخيلت كل شيء ولم أصل إلى مبلغ من المبالغ الجنونية التي نسمعها، فاستيقظت بعدها وأنا أفكر في كل هذه الأوراق الخضراء وكيف تحولت من كونها مادة لتلبية الرغبات إلى كونها رغبة بحد ذاتها.

أذكر أبي وهو يوصيني بألا أشتري إلا ما أحتاج وأعرف يقيناً بحاجتي له، وطريقته في الأسئلة الثلاثة التي تحدد الاحتياج ومقداره وعن إضافة ما أنوي شراءه لحياتي. وأذكر في نفس الوقت وصية جدتي بألا أبخل على نفسي ما دمت قادراً ولن أظلم محتاجاً بشرائي هذا .. وأعتقد بأن هاتين الوصيتين تشكلان منظومة تدير عملية الشراء التي يجب أن تكون !

حساب والدي (سعيد بادغيش) في تويتر : @lovemybees 

أصابة بالجنون

قياسي

 

 

كيوم عادي من أيام السنة, المشهد المتكرر ذاته لكل يوم, ابنتاه اللتان تنزلان لمدرستهما وسباقهما لباب المدرسة, التفاتة الصغرى منهما وتلويحها بيدها مودعة إياه في مشهد طفولي رائع وبريء, ابتسامته التي يبادلها إياها بكل صباح .. تلك الابتسامة التي تخفي بداخلها حزناً يعتريه, وهموماً بعمله تكاد تغرقه فيها

 

لم ينتشله شيء من تلك الهموم منذ فترة طويلة, لم ينتشله شيء منها كتلك المكالمة التي فاجأته لتخبره باحتراق مدرسةٍ ما بالجوار .. أو بالأصح ؛ لتخبره باحتراق المدرسة التي تابع ابنتاه تدخلان إليها صبيحة ذلك اليوم

 

لن يستطيع وصف الأفكار التي تتصادم في مخيلته عن لحظة وصوله

أصابه الجنون بالفعل ؛ قاد سيارته بسرعة جنونية ليصل للمدرسة

أصابه الجنون بالفعل ؛ فحتى السيارات وزحامها لم يمنعانه من الوصول للمدرسة, فترك سيارته للزحام وصار يجري بكل سرعةٍ تطيقها قدماه

أصابه الجنون بالفعل ؛ فقد استلزم تدخل الكثير ليعدلوه عن قراره بالدخول للمدرسة التي تأكلها النار

 

انهارت مشاعره .. خسر حياته لفترة .. فسقط على ركبيته يبكي بضعف

 

 

تخيلوا الفرحة التي غمرته وهو يحتضن ابنتيه, تخيلوا الدموع والقبلات, تخيلوه يتلمس وجهيهما بشيء من عدم التصديق

 

تخيلوا ذلك المشهد الذي يسألنا بغضب عمن فجع هذا بابنتيه ؟

 

تخيلوا المشهد الذي يسألنا بامتنان عمن رسم له ابتسامته

 

تخيلوا بنات المدرسة وقد أضحوا أمهاتاً تنتشر في بناتهن اسمي : ريم وغدير

 

لقد أصبحنا اليوم على أسطورتين سطرتا اسميهما بحروف من المجد, أصبحنا على قدوتين تستحقان منا كل الاحترام والتقدير .. فحري بنا افتخارنا بالمعلمتين اللتان كانتا حقاً معلمتين في ذلك المشهد البطولي.

 

* تدوينة قديمة نشرتها بتاريخ ٢٥ ذوالحجة ١٤٣٢هـ .. تعقيباً على خبر احتراق مدرسة ابتدائية للبنات بمدينة جدة، وأعيد نشرها في الذكرى الأولى للحادثة.

روابط للخبر : (١)(٢)(٣)

كله بدأ من هنا

قياسي

 

 

الكثير من الومضات هنا وهناك, دخل بهدوء حتى أن البعض لم يلحظه, أجاب عن كل الأسئلة, أثار إعجابي في رده عندما سأله أحدهم : الكثير من الأخطاء التحكيمية في المبارة, هل أثرت على نتيجة اللعبة ؟ رد عليه بشيء من الضيق : لا ينبغي أن نلوم غيرنا على الخسارة, فقد كانت لدينا تسعون دقيقة كاملة ولم نستطع تسجيل هدف فيها

 

صعب هو الاعتراف بالخطأ, لا أحد ينكر ذلك, لكن لا يمكنك تغيير ما لا تعترف به

 

أتضايق كثيراً في الآونة الأخيرة من مصطلحي “المؤامرة” و”الأعداء”. لأنني على كثر تداولهما لم أعرف الكثير من الأعداء الذين يحيكون المؤامرات لاستئصالنا وإنهاء التشريعات الإسلامية .. إلخ

 

أنا أؤمن بأن كل أمة لن تسعى لغير أمجادها, ما هم الشعوب غير الحياة السعيدة ؟ وما هم الحكومات – غالباً – غير إرضاء الشعوب ؟

 

غبي من يصرف قوته للإطاحة بأناس لأجل الإطاحة فقط, لا توجد في العالم الكبير تلك الضحكات إذا تعثر أحدهم أو ارتضم بشيء ما

 

كل أمة لن تسعى لغير قوتها هي, وبطبيعة الحال ؛ ستزيح كل من يقف في طريقها, صدقوني .. لن تتدافع أمتان تختلف أهدافهما ولا تتقاطع طرقهما

 

دعوني أوضح امراً .. إذا انزعجت أوروبا من التكتلات اليهودية ومطالبهم المتكررة, وقامت بالتخلص منهم في قلب الشرق الأوسط, فهذا لا يعني إلا أن بلادنا كانت أرضاً خصبة لإقامة دولة للصهاينة. وإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية تهدف للحصول على المزيد من النفط لتلبي احتياجاتها الخاصة, فلا تلوموها لأنها افتعلت حرباً مع الإرهاب لتدخل أراضينا باحثة عن خيراتها, فأرضنا الغنية لم نحسن الاستفادة منها, ولم نولها ذرة اهتمام أصلاً. لا تلوموا غيرنا .. فنحن ناديناهم ليجيؤوا

 

وجهة نظري البسيطة تقضي بأننا يجب أن نسعى لقوتنا وقوتنا فقط, أن ننظر إلى أنفسنا كبداية, ونمشي في الطريق الذي يصلنا بالحضارة المنشودة, كل ما يجب علينا هو أن نبدأ ؛ وستبدأ مشاكلنا بالاضمحلال تلقائياً, كل ما يجب علينا .. فقط أن نبدأ

 

* تدوينة قديمة نشرتها بتاريخ ٢ / ٩ / ١٤٣٢ هـ

لا أؤمن بالقدوات !!

قياسي

 

عن عائشة رضي الله عنها أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى الِلَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ أَصْوَاتًا ، فَقَالَ : ” مَا هَذِهِ الأَصْوَاتُ ؟ ” ، قَالُوا : النَّخْلُ يَأْبِرُونَهُ ، فَقَالَ : ” لَوْ لَمْ يَفْعَلُوا لَصَلُحَ ذَلِكَ ” ، فَأَمْسَكُوا ، فَلَمْ يَأْبِرُوا عَامَّتَهُ ، فَصَارَ شِيصًا ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى الِلَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : ” كَانَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَشَأْنُكُمْ ، وَكَانَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ فَإِلَيَّ ” ، و في لفظ مسلم :” فَقَالَ : مَا لِنَخْلِكُمْ ، قَالُوا : قُلْتَ كَذَا وَكَذَا ، قَالَ : أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ ”

شخصياً ؛ أقرأ في هذه القصة تصريحاً منه صلى الله عليه وسلم بأنه حتى أكمل البشر ليس قدوة مطلقة. فالرسول صلى الله عليه وسلم قدوة ؛ بأخلاقه، بأفعاله ذوات الصلات الدينية، وفي تعاملاته وقيادته ..إلخ. ولكنه لم يجعل نفسه قدوة لمجال لم يجعله اهتماماً بأحد الأيام، كالزراعة مثلاً أو الحدادة !

كلنا نعلم بأن البشر أجمعين معرضين للخطأ، وللنسيان، أو للقيام بتصرف ليس بمكانه أحياناً .. فالبشر أولاً وأخيراً ليسوا معصومين من ذلك أبداً ؛ ولهذا فأنا لا أؤمن بالقدوات المطلقة أبداً.

شخصياً ؛ أعتقد بأن البشر أجمعين لم يكونوا أبداً للاقتداء والمماثلة، أؤمن بأنها المبادئ والأفكار هي التي يجب أن نتمسك بها ونمثلها. أما البشر فقد يكونوا في موقف ما انعكاساً لما نؤمن، إلا أن هذا لا يجعلهم مكاناً للاقتداء في غير ذلك الموقف.

القدوة بالنسبة لي ؛ ليس إلا رجل أحب أن أصل إلى أحد أفعاله التي تتقاطع مع طريقي، أو تجعلني أصل لأهدافي بشكل أسرع .. وليس في عالمي من قدوة أسعى لأن أكون عنه نسخة كربونية !

يومٌ آخرٌ منشود

قياسي

اعتاد على جفاء النوم عن عينيه بالليالي التي ينتظر أمراً مهماً بصبيحتها، اعتاد على ذلك عندما تختلط غمضة عينيه بشيء من القلق أو الخوف، إلا أن نومته الليلة تبدو مختلفة بعض الشيء عن غيرها من ليالي الأرق ؛ فهذه ليلة من السعادة، تؤرقه فيها خيالاته السعيدة أو لحظاته المرحة التي رسمها، انتظرها، وصاغ لكل احتمالات سيرها ردة فعل تبدو لها مناسبة.

وفقدت هذه الليلة نكهتها السنوية عليه بمرور السنين، فقد أغمض جفنيه بكل استسلام للنوم، وأعلن توقفه لانتظار الأرق بليلته هذه، تمتم بوهن متسائلاً ؛ أهو اعتياد منه على مثل هذه الليالي ؟ أهو الأرق الذي اختفى من ليلته، أم هو انتظاره لمثل هذه الليالي الذي اختفى ؟

نحن من تغير يا صديقي، نعم تغيرنا .. ولكن للأسوأ .. ولهذا فقدنا فرحتنا بليالي العيد !!

فقدنا أنفسنا من بين جنبينا، وحلت مكانها كراهيات وأحقاد أفقدتنا إنسانيتنا. هذا ما غيرته الأيام، لن يشعر بشيء من السعادة من لم يملأ أيامه أملاً وحباً وحياة، لا وجود لذاك اليوم الذي تتغير فيه مسيرة حياتنا مالم نغير من أفكارنا التي تقودنا.

ابحثوا عن الإنسان الذي فقدتموه بتكالب الأيام عليه، ابحثوا عنه بعفوٍ وحبٍ ورحمة، ابحثوا عنه بترك الأنانية التي تغزونا والمادية التي تضيق علينا حياتنا، ابحثوا عن جمال إنسانيتكم، وراجعوا تلك الأفكار التي تجعل من نفسها فوق الإنسان نفسه، فلم تكن الأفكار إلا وسيلة لتجعل للإنسان مستقبلاً أفضل .. لا تفقدوا إنسانيتكم ..!