خرافة الإنسان السوي

قياسي


كان منظره مثيرًا للسخرية ؛ بشعره الذي يبدو وكأنه لم يعرف مشطًا قط، وملابسة المقلمة غير متناسقة الألوان، وعينيه اللتان تنظران ببلاهة إلى اللاشيء، وكأنها تبحث عن شيء ما غير موجود أصلًا . كثيرًا ما كانت تعترضه كلمة ساخرة أو تعليقًا مضحكًا على شكله أو على أحد تصرفاته، لكنه لم يكن يعير ذلك اهتمامًا، أو بالأصح .. لم يكن يعلم بأمر تلك الكلمة أو الضحكات، فقد كان يفكر في أمرٍ مغاير تمامًا يسلبه تفكيره وتركيزه. سأله بعض الأصدقاء بشيءٍ من الحرج عن ملابسه التي لا يغيرها بتاتًا، فكانت إجابهم منظر الدولاب الممتلئ بملابس متشابهة، ترافقها ابتسامته الهادئة وإجابته بأنه لا يمتلك وقتًا يصرفه في اختياره الملابس.

في أرضٍ أخرى وزمن آخرٍ ؛ كان هناك رجل يحتسي قهوته الصباحية بشيء من العصبية، يتأفف مرارًا ويتمتم ببعض الشتائم الصبيانية، كان يقلب فكرته المجنونة التي يؤمن بها حد الثمالة في تفاصيلها ؛ (فكرة التخلي عن النوم)، ظل يفكر في حلٍ لـ “عائق النوم” أو “مشكلة النوم” كما يحب تسميتها، ظل يفكر في تلك اللقاءات التي فوتها بسبب النوم عنها، وفي تلك الأوقات التي أضاعها منتظرًا شخصًا كان نائمًا عنها، ظل يفكر في كمية الأوقات التي أضاعها والإنجازات التي حرم نفسه منها “لأنني كنت نائمًا” .. تمتم بسخط.

من الطريف بأن كرهه الجنوني هذا هو ما قاده للعزلة التي صرفها في قبو بيته محاولاً قتل النوم والاحتياج إليه، متجاهلاً أولئك الذين يطرقون بابه مستفسرين عن عزلته ذعرين، وعادة ما ينصرفون وعلى ثغرهم ابتسامات ساخرة وضحكات مكتومة، والتي لم يلحظها صاحبنا بدوره لانشغاله باختراع ذاك المجسم الغريب الذي كان يجري به بعدها بأيام، صائحًا بأنه فعلها، مطلقًا على نفسه اسم “أديسون قاهر النوم مخترع المصباح”.

ولا أعتقد بأنه كان غريبًا إن علمنا بأن صديقنا الأول لم يكن إلا “آينشتاين” الشهير بإهماله للشكليات، بل وببعض التصرفات والقرارات الخاطئة في مجالات أخرى غير علمية بحتة. لكنه يبقى آينشتاين العظيم بنظرياته واستفساراته وبحوثة التي يصعب قراءتها، والتي بدورها شكلت ثورة علمية ملحوظة الأثر في يومنا الحالي.

أحيانًا أتخيل أيام أولئك الذين أحدثوا تغييرات ملحوظة ؛ سرحانهم المفاجئ واعتذاراتهم لمحدثيهم الذين يطالبونهم ببعض الاهتمام أو الانتباه، أو انسحابهم بشكل مفاجئ من الحفلات والتجمعات، ليدونوا أمورًا خطرت ببالهم. انعزالاتهم المفاجئة، والضحكات التي ألفوها لأن عزلتهم الطويلة لم يكن لها أي ناتج فعلي. وأحيانًا نظرتهم إلى رجلٍ مهندم وتمنياتهم بأن يكونوا بمثل حسنه ولباقته، وخروجهم بعض الأحيان بلباس يعتقدون حسنها إلا أنها تبدو مثيرة للسخرية في أعين الغير. حزنهم على أنفسهم لما ينقصهم من مهارات في التواصل تفقدهم أصدقاءهم بمرور الأيام، وفشلهم الذريع في ترتيب “جملة مفيدة” كما وصفه أحدهم ضاحكًا، وعجزهم عن التواصل مع غيرهم وإيصال فكرة عما يبتغون إيصاله من الأفكار أو التصورات.

أعتقد بأننا -كعرب خصوصًا- لا نحسن التعامل مع هؤلاء الغريبين في تصرفاتهم أو طرق تفكيرهم، وأعتقد بأننا نقتل فيهم اختلافهم الذي أنتج إبداعهم. أعتقد بأننا نحرم أنفسنا من هؤلاء الغرباء ومن النتائج التي يعدونا بها.

أعتقد بأننا نختلق هدفًا غير قابل للتحقيق، نطلق عليه “الإنسان السوي” ؛ بعض التصرفات وبعض الطرق في المعيشة التي تجعلنا في نهاية الأمر مجرد أناس عاديين، وتحرم البعض طريقتهم الغريبة في الحياة، فقط لأنها غير لائقة ..!

ادعموا غرابتكم، وغرباءكم ..!

رأيان حول “خرافة الإنسان السوي

  1. نمطية.. اي شي مخالف لما الفناه او تعودنا عليه يعتبر شاذ
    لا احد يتجرأ على كسر المستحيل المبرمج او الاقتراب من الغريب.. او الخروج من الاطار الفكري للمجتمع عامه الا مارحم ربي
    الاغلب يظن انه حر بتفكيره.. ولو ركز قليلا لرأى ان اغلب ربما مفاهيمة واغلب مايؤمن به وطريقة تفكيره متناسخه
    نرى رث الملابس وضيع دائما..والانعزالي مريب.. نمطية نمطية !!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *