ردة فعل

قياسي

 

“في الدول الشمولية يكون التدين أقوى، وفي الدول الحرة يكون الدين أقوى” ~ د.محمد مختار الشنقيطي

يُطلق عادة كصطلح (الدولة الشمولية) على الدول والمجتمعات التي تسير ناحية توحيد أفكار ومبادئ الجميع بكل تفاصيلها، طريقة الدين، أسلوب الحياة، وكل شيء بالعموم. سواءً أكان هذا التوجه شعبيًا يسعى إلى محاربة الأفراد المختلفين، أو توجهًا من الدولة والحكومة تجاه الشعب، وعادة لا تختلف توجهات الشعب وحكومته، فيكون لكليهما توجه محاربة المختلفين عن النسق العام. المهم ؛ بأن الدول الشمولية مستبدة في فرض أسلوب الحياة على الجميع، وتسعى لأن تشكل نمطًا عامًا لا يختلف عنه أحد. وقد تبدو أحيانًا بمظهر متسامح قليلًا سامحة ببعض الاختلافات البسيطة، إلا أنها لا تتخلى عن كثير من التفاصيل.
مشكلتي الكبرى -شخصيًا- مع فرض أسلوب حياة معين على الآخرين تنطلق من ناحيتين أساسيتين ؛ الأولى في أن تعاقد الفرد الأولي مع الدولة كعقد سياسي أو مع بقية الشعب كعقد اجتماعي لم يكن بداية ونهاية قائم على فكرة أبدًا، وإنما على مبدأ بسيط وهو الحماية المحسوسة للمتلكات (كتبت هذه الفكرة بشكل أكبر في تدوينة سابقة تحت عنوان : الدولة. المقدسات، والشعب). أما المشكلة الثانية فتختص بالمعنى، فالحياة في ظل المبادئ المفروضة تحول هذه المبادئ إلى عادات، وتسلخ عنها المعنى يومًا بعد يوم حتى تصبح كل الحياة وتفاصيلها بعيدة تمامًا عن الوضع الذي يستحمله بشري، مما يخلق ردة فعل قوية وحقيقية من قبل أولئك الصادقين مع أنفسهم.
هذا الصدق في ردة الفعل يكون مزيجًا من العاطفة والعقلانية. الشيء الذي يجعلها غالبًا غير منطقية، وليست كاملة في حريتها أيضًا وبعدها عن المبادئ المفروضة بداية. وبالرغم من أنني أرى ردات الفعل هذه صحية بالمجمل، فإنني أراه عرضة للرد على الدولة الشمولية بنفس مبادئها وتفكيرها، كثير من ردات الفعل هذه تبدو وكأنها مجرد الرأي المخالف للسائد وللماضي، وإن تحررت من هذه العقدة فإن موضوع اهتمامها وعمودها الفقري يكون مرسومًا فوق جثة المبادئ الماضية، فتصبح الفكرة الأساسية الجديدة في نفس موضوع الفكرة الأساسية الماضية، والمبادئ الأساسية في كلا الفكرتين متشاركتين في الموضوع وإن اختلفت في الماهية.
عندما استفحلت الرأسمالية التي عاملت الرجل كأنه آلة، وعاملت المرأة وكأنها جسد مجرد، ثار بعض الصادقون وقامت الحركات الأصولية، والتي تطالب بالرجوع إلى نصوص تاريخية، دينية كانت أو فكرية، واجترارها إلى الحاضر. ووقعت تلك الحركات الأصولية في خطأ كونها ردة فعل، فحررت الرجل والمرأة من النظام الرأسمالي، ولكن تفكيرها في الرجل ما زال يجعله في دور الآلة، ويجعل المرأة في دور الجسد المجرد.
أعتقد بأننا نحتاج إلى انفصال تام عن أفكارنا الماضية إن أردنا خلق أفكار جديدة، نحتاج إلى فترة هدوء نسترجع فيها عقولنا من الأفكار الشمولية، نحتاج إلى خلق فكر جديد، وليس مجرد أفكار قائمة على ذات الفكر القديم. نحتاج إلى عقل هادئ يقرر مبادئه الأساسية وأفكاره الرئيسة وتشعباتها بعيدًا عن الفكر الماضي، وإن استخدم بعض الأفكار.

خاطرة مبعثرة (٠٧) ؛ عرِّف بنفسك

قياسي
قرأت مرة كلمة للدكتور فيليب ماكجرو يقول فيها بأنه يستغرب من تعريف الناس لأنفسهم بوظائفهم، ويعتقد بأن هذا يدل على عدم معرفتهم بأنفسهم. يقول بأن الكل يذكر وظيفته مباشرة تمامًا بعد ذكره لاسمه، وكأن وظائفنا المجتمعية أضحت جزءًا مهمًا لا يتجزأ من ذواتنا.
فعليًا ؛ فكرت كثيرًا في تعريفي لنفسي، وكلمة الدكتور ماكجرو السابق ذكرها جعلتني أتجنب تعريف نفسي بأنني طالب هندسة صناعية، وأحيانًا عدم ذكر ذلك. وبحكم أنني لا أعتقد بأنه من اللائق تعريفنا أنفسنا بما لم يكن لنا فيه اختيار، كالعرق واللون والحالة الاجتماعية، فقناعتي هذه زادت بأن جعلتني أتجنب أيضًا مزيدًا من تفاصيل حياتي الشخصية في تعريفي لنفسي.
أذكر بأنني في قراءتي لرواية خوزيه ساراماغو (قصة حصار لشبونة) بأنه قال بلسان الشخصية الرئيسية أنه يكره أن يناديه الناس باسمه الأخير، لأنه لا يعني له الكثير، وإنما اسمه الأول هو الذي يمثله وينطق بلسانه غالبًا. وأعتقد بأن فكرته أعجبتني لدرجة أصبحت مقلقة لتعريفي نفسي، فقد سلبت مني حتى اسمي الأخير الذي لا أعرف عنه وعن تفاصيله وتاريخه الكثير، ولم أهتم به كثيرًا أصلًا.
في أحد المرات كنت أتحدث مع أحد الأصدقاء عن عجز الكلمة في وصفها للمشاعر والمعنى، فأجابني بأن كلامي يبدو غريبًا خاصة وأنه ناتج عن “كاتب”. في يومٍ آخر وجدت أحدهم يقدمني لآخر بأنني “مدوّن وكاتب مقالات”. وقبل أيامٍ استوقفني شخص عرفّني بأنني “أديب مستقبلي” وصديق آخر قام بتعريفي متهكمًا مرة بأنني “أديب يتنكر بشكل مفكر”. كل هذه التعريفات وإن بدت قريبة مني للحظة فإنها تبدو ظالمة أوقات كثيرة، لا لعدم اقتناعي بما أفعل، وإنما لأنني لا أعتقد بجواز تعريف الآخرين بحسب أعمالهم، فأعمالنا وأفكارنا هي مجرد لحظات تابعة لفترتها الزمنية قد لا تمثلنا في تاريخ آخر، وقد لا تبدو حتى منطقية بالشكل الذي فهمناه للآخرين الذين لم يعرفوا كامل التفاصيل، فضلًا عن أفعالنا اليومية وأفكارنا قد تختلف بشكل جذري في ليلة وضحاها.
لا أعرف فعليًا ماذا تبقى لنا لنعرّف أنفسنا، ولكن يبدو لي بأنني سأطالب الجميع بعدم تعريفهم لي، وعدم سؤالي عن تعريفي لنفسي. وحتى أصل إلى جواب مقنع أعتقد بأنني سأعرف نفسي كل لحظة بتعريف مختلف، تنقشه أفكاري ومزاجاتي اللحظية .. مالم أنسل من مطالبة تعريف نفسي للآخرين.

الرسومات الكرتونية

قياسي

قد يبدو هذا الموضوع لطيفًا بعض الشيء لدى كثير من الناس الذي يفضلون التعامل مع الرسومات الكرتونية بشيء من الطيبة، وقد يبدو كريهًا عند الذين يعتبرون الرسومات الكرتونية -خاصة منتوجات ديزني- مؤامرة على البلاد العربية والشرقية. في هذه التدوينة سأعرض فكرتي الخاصة عن الرسومات الكرتونية بشكل عام، ومنتوجات ديزني بشكل خاص، بحكم أنها الأكثر انتشارًا ونجاحًا في عالم الرسومات الكرتونية، كما أنها أكثر الرسومات احترافية. سأعتمد في تحليلي على عدد من المنتجات وهي ؛ الأسد الملك، الجميلة والوحش، سنووايت، الأميرة النائمة، سندريلا، بينوكيو، علاء الدين، حكاية لعبة، السيارات، ومولان. أعتقد بأن هذه أشهر أفلام ديزني بجوار “ميكي ماوس” وأصدقاؤه والذين سأفضل تجاهلهم اليوم.
المفصل الأساسي والفكرة المتكررة بشكل أكبر في الرسومات الكرتونية عند (ديزني) هي البحث عن الذات، أو تحقيق الذات بتعبير أكثر دقة، وهو أحد الأسئلة المهمة التي يتأخر طرحها على الطفل العربي، في “فيلم “الأسد الملك” يُطرح هذا السؤال في حوار الشخصية الرئيسية (سيمبا) مع خيال والدها ومع القرد (رفيكي)، وفي فيلم “مولان” يتكرر هذا الحوار طريقة أكثر وضوحًا، عندما تقف الشخصية الرئيسية (مولان) أمام خيالها على البركة معبرة بأغنية بأنها لا تستطيع أن تتخلى عن نفسها وعن أمانيها وأفكارها في مقابل القبول المجتمعي. وفي كل الرسومات الكرتونية نجد الفكرة ذاتها تتكرر بأكثر من طريقة.
نقطة أخرى تتكرر كثيرًا في الرسومات الكرتونية تكمن حول الأخلاق في التعامل مع الآخرين، الغيرة كخلق سيء كانت محورًا للعديد من الرسومات الكرتونية، “حكاية لعبة” مثلًا عندما يغار راعي البقر (وودي) من اللعبة الجديدة الممثلة في رائد الفضاء (بز يطير). أو في “السيارات” عندما يتعامل (برق بنزين) مع الآخرين بشيء من الغرور والاحتقار لما يرى في نفسه من موهبة، حتى يتعلم بأن الموهبة وحدها لا تكفي، وإنما تحتاج للتدريب المستمر، والتعامل مع الخصم باحترام. حتى (سيمبا) في “الأسد الملك” كان مغرورًا بشكل مزعج عندما كان صغيرًا، وذلك ما كلفه الكثير وجعله يتجاهل ذاته. وفي “الجميلة والوحش” وفي “الأميرة والضفدع” كان السبب في معاقبة الأمير وتحويله إلى وحش أو إلى ضفدع هو غروره واحتقاره للآخرين.
دائمًا ما يكون في القصص هدفًا تريد الشخصية الرئيسية، وغالبًا ما تجدها تبتعد عنه كثيرًا بطيشها أو بمؤامرة من الأشرار، ومن ثم تتدخل قوى سحرية طيبة لمساعدته بعدما يصيبه اليأس. في الحقيقة ؛ السحر واللامعقول يتكرر كثيرًا في الرسومات الكرتونية، سواءً أكانت قوى سحرية طيبة أو شريرة متمثلة في السحر الأسود. بشيء من الأمل والإيمان ترسل هذه الرسومات الكرتونية لأطفال رسالة بعدم الاستسلام والسعي لتحقيق الأهداف مهما كانت، وبأن ما لا نتخيله أو يخطر على بالنا قد يساعدنا في الوصول إلى أهدافنا. الساحرة التي ساعدت (سندريلا) في الوصول إلى الأمير قبل منتصف الليل، والأخرى التي جعلت (بينوكيو) اللعبة الخشبية تتحرك وتتكلم، التنين الذي ساعد (مولان) لحماية  الصين وتشريف اسم عائلتها، والكثير من القصص. وعلى الصعيد الآخر فإن السحر الأسود يتكرر بكثرة أيضًا في الرسومات الكرتونية ؛ في التفاحة المسمومة عند (سنووايت)، أو الإبرة المخدرة عند (الأميرة النائمة)، وغيرها الكثير. وفي حضور السحر الأسود والقوى الشريرة العظمى، دائمًا ما يكون الحب هو السبيل الأول للخلاص والتغلب على المصاعب، القبلة التي تنفي السحر الأسود، أو تعاون غير مفهوم بين الشخصيات للتغلب على الشرير الذي يصعب التغلب عليه ..إلخ. وأحد أهم المبادئ التي تطرحها الرسومات الكرتونية أيضًا أن كل شخص مسؤول عن تصرفاته، وأن عليه تحمل عاقبة اختياراته، (بينوكيو) الذي يتألم كثيرًا في السيرك، أو (وودي) و(بز يطير) وهما يواجهان خطورة الغربة عن منزل (آندي)، (مولان) وهي تواجه خطورة تشويه سمعة العائلة .. إلخ.
الجانب المفضل بالنسبة لي في كل الرسومات الكرتونية يكمن في فكرة أن الشخصيات الرئيسية لا تتصرف بطريقة غير مقبولة حتى لو تصرف البقية بأكثر الطرق وحشية وإجرامًا. وقد تخسر الشخصية الأولى وقد يربح الأشرار، إلا أن الخير دائمًا ما ينتصر نهاية، ويكسب الحرب. كثيرًا ما يكون القتل غائبًا في القصص، خاصة من جانب الشخصيات التي تمثل الطيبة. فالشخصيات هذه تبدو عادة مثالية بعض الشيء في تعاملها مع أعدائها، فهي تسامح وتصفح لأبعد درجة. بل وكثيرًا ما تمد يدها إلى الشخصيات الشريرة وتقدم لها الفرصة الجديدة للحياة والطريق الجديد. فقد تموت الشخصية الشريرة بأن تسقط من على جُرف عالٍ، كما حصل في قصة “سنووايت” و”الجميلة والوحش” و”الأسد الملك” بجزئيه. وقد يقوم الشخصية الشريرة إلى وحش مجرم تنتفي عنه كل صفات الرحمة أو الجمال، وفي هذه الحالة قد يتم قتله كما حصل في قصة “الأميرة النائمة” التي تحولت فيها الشخصية الشريرة إلى تنين أسود مرعب يقضي عليها ذاك الأمير الشاب. كل ذلك حتى لا يتقبل الطفل فكرة القتل أو سفك الدماء مهما كان.
لنتكلم عن “علاء الدين” وقصته لمزيد من التوضيح ؛ (علاء الدين) هو شاب فقير يسرق كل ما لا يمكنه الحصول عليه بطريقة شرعية، ويربطه القدر مع الأميرة (ياسمين) في لقاء غريب لا تجره إلا الصدفة، الأميرة التي بورها كانت ترفض كل من يتقدم إليها طالبًا يدها، لأن الجميع كانوا يستعرضون أموالهم وجاههم، بينما هي ترفض الارتباط بشخص لا تحبه لشخصه. (جعفر) الشخصية الشريرة في القصة كان مستشارًا للملك، الذي قرر الفوز بيد الأميرة (ياسمين) عن طريق امتلاك القوة المتمثلة في قوة جني المصباح. في النهاية ترتبط الأميرة (ياسمين) بالفقير (علاء الدين) الذي تحبه، يتم القضاء على (جعفر) عن طريق تحويله إلى جني يتم حبسه في المصباح. فضلًا عن بعد القصص الجانبية، كتخلي (علاء الدين) عن أمنيته الأخيرة في سبيل منح الجني الأزرق حريته، والوفاء بوعده الذي أعطاه للجني قديمًا. فحقق (علاء الدين) نفسه بإيجاده الحب الذي يريده، ويعطيه شخصيته الطيبة التي تساعد الآخرين، وانتهت القصة على هذه الخاتمة.
لن أقول بأن هذه الرسومات الكرتونية خير كلها، وإنما سأبدأ نقدي بمقولة (مالك بن نبي) التي يصف فيها تأثير الثقافة على حكم الإنسان على الحياة. يضرب مالك بن نبي مثلًا بمسرحية رومنسية يقتل الحبيب فيها نفسها لأجل محبوبه، يقول (مالك بن نبي) بأن الإنسان الغربي يرى مشهدًا كهذا بمنظور جمالي بحت، فيبكي له متأثرًا، مصفقًا لمثل هذه التضحية معظمًا. بينما ينظر العربي إلى المشهد السابق بمنظور أخلاقي، فتراه يشمئز من الانتحار، ويراه مؤسفًا وغياب للأخلاق وغير مفهوم.
كل هذه الرسومات الكرتونية التي تحدثت عنها سابقًا مكتوبة بقلم غربي خاضع للعولمة، من الطبيعي أن لا تلائم أولئك الذين لا يتقبلون العولمة ولا الثقافة الغربية التي يتم تعميمها. وهذا هو الجانب السلبي فيها كما أعتقد، لن أقول بأنه متعمد، بل سأقول بأن الطفل الغربي هو المقصود بمثل هذه القصص. تختلف الرسومات الكرتونية الشرقية -مثلًا- عن طريقة العرض أو الأفكار الرئيسية والمحورية بشكل كبير، وحتى في طريقة الرسم والقصة والحوارات المتضمنة، لأنهم يصنعون رسومات كرتونية موجهة إلى أطفالهم. ويبقى بذلك للأمم التي لا تهتم بأطفالها مهمة رشق الآخرين بالاتهام، والشعور الدائم بالمؤامرة وشيء من الكبر والزيف المتفاخر.

التجربة البشرية

قياسي
أعتقد بأن أحد الأفكار الأساسية التي تجتمع في الأمم المتقادمة أو المتطورة هي إيمانها بالتجربة الإنسانية، موقفها من الخطأ والضياع وبأنه أساس من التجربة والطريق إلى الكمال، بأن الخطأ محتمل ويجب تقبله بالتصويب أكثر من السخرية أو العجز.
وفي الجهة الأخرى ؛ فالخطأ عند الأمم غير المتقدمة عادة ما يكون أمرًا يجب اجتنابه، مما يسبب بالطبع خوفًا من كل جديد. وفي النهاية تجد بأنها أمة تسير على خطى سابقة أثبتت صحتها في زمن من الأمان، وليس بالضرورة أنها صحيحة بالمطلق. وأحيانًا تكون هذه العقلية سببًا لتجنب القيام بأي أمرٍ، وكما يقول أندرو ماثيوس : لن تخطئ أبدًا إن لم تفعل شيئًآ.
تدور أفكار الأمم المتخلفة -إن صح التعبير- في النهضة على التمسك بنفس الأفكار القديمة، وعادة ما تكون مصحوبة بأمل تدخل إلهي أو سماوي غير مألوف. تنتظر قدوم مُخَلِّص أو محررٍ أو أسطورة تشكل بطاقة الخروج من الألم والتخلف. والمضحك بأن كثيرًا منها ترسم خطة للخروج وتفاصيل ليوم الخلاص بشكل عجيب جدًا يجعله أشبه بالرواية، التي تقوم هي بدورها بالانتظار فقط. وبغض النظر عن إيجابيات وسلبيات هذا اليوم الذي ننتظره إذا ما حاكمناه فإن طريقة إيماننا به أشبه بالشلل الذي يصيب الأجساد، يصاحبه عادة رفض لأي خطوة يُعتقد بأنها قد تُبعد عن المصير المنشود، ويُحرم النقاش عن تفاصيل وفراغات لم تملأ أو تتعارض، بل ويصاحبه استعداد تام لتوعد كل مخالف بسوء الخاتمة والمصير.
غريب جدًا في عالمنا العربي -على وجه التحديد- احتقارهم للتجربة الإنسانية أو البشرية ؛ أتذكر مثلًا أولئك الذين لا زالوا يعايرون بعض البلاد التي لم توفر الحماية لمواطنيها في ساعات متأخرة من الليل، وحتى بعد انتهاء هذه التجربة في تلك البلاد فإنها لا تزال محط سخرية واستهتار منها، بالرغم من أنها قد تكون خلقت عادة شعبية لديهم يطمح إليها الكثير منا، ألا وهي النوم بالليل والعمل بالنهار.
بشكل متفائل أقرب ما يكون للسذاجة، يعتقد الشعب العربي بأن المستحيل كلمة غير حقيقية، لكنهم جعلوا مقابلها السخافة، فاعتقدوا بأن كل شيءٍ ممكن إنجازه دون أي جهد يُذكر، وكل ما ليس بأيدينا، محتوم علي أن يكون بها يومًا.

تجسيد الفكرة

قياسي

مالك بن نبي : “أما في الماضي فقد كانت البطولات تتمثل في جرأة فرد، لا في ثورة شعب، وفي قوة رجل، لا في تكاثف مجتمع، فلم تكن حوادثها تاريخًا، بل قصصًا ممتعة، ولم تكن صيحاتها صيحات شعب بأكمله”.
أحد الأفكار التي أعتقد بأننا نؤمن بها، حتى وإن كانت بشكل لا ندركه ولا نعيه، هي فكرة البطل الواحد.
تميل فكرة البطل الواحد على تجسيد الفضيلة بشكل كامل على شكل شخص واحد، وتحميله فوق طاقته واستيعابه البشري المذبذب بين الصواب والخطأ. تجد ميلًا عامًا لأن يكون يحلل العالم الفيزيائي الوضع السياسي، وأن يتكلم رجل الدين في الاقتصاد والفلسفة والمشاكل الدولية، وأن يكتب طبيب الأسنان عن التاريخ، وغيرها من التداخلات في المجالات والاهتمامات، وأحيانًا تكون هذه التداخلات بسبب مطالبات شعبية، أو بسبب هذه الفكرة الدفينة في الآمل بمنصب البطل ذاك. الفكرة موجودة في الجميع وبشكل كبير.
أعتقد بأن هذه الفكرة موجودة في الكثير إذا لم أقل عند الجميع، ففكرة البطل هي انعكاس لطلب التبسيط والترميز الذي يُطالب به الجميع. وبشكل غريب ؛ فنحن نرفض بأن نجعل الثورة المصرية مثلًا ثورة شعب، بل نبحث عن شخص يعكسها ويكون لها رمزًا، بداية من وائل غنيم، نهاية بالرئيس الأخير محمد مرسي والذي يُسوّق له وكأن سقوطه سقوط للثورة. والكثير من الحركات الكبرى والتغييرات الضخمة التي تُحمل وكأنها لم تكن حرمة شعب كامل، أو فكرة ضخمة تشربها الكثير.
المزعج في الموضوع، أن يجد المرء في نفسه الجرأة والثقة التي تخوله لأن يتكلم وكأنه رمز، أو أن يتنقل بين التخصصات المواضيع وبكل جرأة وكبرياء.
المشكلة الأساسية بالنسبة لي تكمن في انتقال المعنى من الفكرة إلى الرمز، كأن ينتقل الدين من المفاهيم الأساسية إلى رجال الدين، أو تنتقل الفضيلة من مبادئها وأفكارها الأساسية إلى أن تتحول إلى الرمز الذي يتحول تشريعًا ومصدرًا للخير والشر فيما بعد. فيتحول من مجرد بشري إلى بشري مقدس، أخطاؤه يتجاوز عنها، وأفكاره مسلمات مهما كانت وكيفما جاءت.
وأعتقد بأن هذا ما نراه اليوم منتشرًا في خطابات ونداءات الكثير، أن يتكلم باسم الله والفضيلة، وأن يرمي البقية بالشر وكل الخصال الخبيثة. كتجسيد العالم للشر في الإرهاب المتمثل في تنظيم القاعدة، وتجسيد الحرب في الطرف الآخر في الحرب العالمية الثانية، الشيء الذي جعل القنبلة الذرية تقوم باسم إنهاء الحرب ومن واجب إنساني، باختصار ؛ كانت الجنود تعتقد بأن انتصارها سيفضي إلى نهاية مفهوم الحرب من المستقبل. وبقدر استيائنا من استخدام الآخرين لهذه الفكرة ضدنا، بقدر ما نستخدمها ضد غيرنا.
فضلًا عن التشويه الذي يحصل لكثير من الأفكار لمجرد أن ناشرها أخطأ بأحد الأيام، أو لأن فيه خصلة غير حميدة. وكثير ما خسرنا أفكارًا قوية وجريئة لمجرد أننا لا نتقف مع صاحبها في كثير من المواضيع.
سأختم تدوينتي بقولة حفظتها قديمًا عن الدكتور يوسف القرضاوي عندما يقول : فلنعرف الرجال بالحق، ولا نعرف الحق بالرجال.

الدولة، المقدسات، والشعب

قياسي

إلى أي حد يجب على الدولة حماية مقدسات الشعب ؟ وهل يجب على الدولة حماية المقدسات بداية ونهاية أم لا ؟ كانت هذه الأسئلة وغيرها التي تحدد علاقة الدولة بالشعب ومقدساته محل نقاشٍ طويل بين عدد من المثقفين وبعض الأصدقاء .. وأنا هنا أقوم بتسجيل إجابتي الشخصية التي أعتقد بها في الوقت الحالي !
ولنبدأ من قبل البداية ؛ من حيث السؤال عن هدف وفكرة الدولة. يقول المفكر الفرنسي جان جاك روسو في كتابه “العقد الاجتماعي” بأن الناس في زمن ما كانوا يعيشون أحرارًا وبكامل إرادتهم الشخصية، وبدون أي اعتبار لرغبات الناس الآخرين، مما سبب شيئًا من الظلم والاستضعاف لكل من لا يقدر على حماية ممتلكاته، أو حتى حماية نفسه. فيرى بذلك بأن استحداث مفهوم الدولة قام أولًا وأخيرًا لحماية الشعب من بعضه البعض، ومن غيرهم أيضًا، لحماية ممتلكاتهم ولحمايتهم هم أنفسهم. ويضيف بأن الناس اختارت قيام الدولة، اختارت أن تتنازل عن شيء من حريتها الشخصية التي تحتمها مخالطة الآخرين في سبيل تحقيق العدل والحماية.
وبذلك يقول المفكر العربي مالك بن نبي : “الحكومة مهما كانت ما هي إلا آلة اجتماعية”*، فهي آلة تقوم على حماية الشعب ككل، وتحقيق مصالحهم الشخصية في إطار مصلحة الكل. إذًا فالدولة عبارة عن آلة اجتماعية، طورتها المعرفة والتجربة البشرية، في محاولة لحفظ كامل الحقوق للمواطنين.
انطلاقًا من نقطة أخرى، سأجدني أتساءل ؛ هل يمكن فعليًا الإساءة إلى المقدسات ؟ هل يمكن لأي أحد الاساءة إلى الذات الإلهية مثلًا ؟ أعتقد بأن هذا مستحيل فعليًا، فإذا كان المؤمن يعتقد بالعظمة اللامتناهية لمقدسه، فكيف يمكن لكلمات أو أفعال محدودة أن تؤثر على هذا اللامتناهي المطلق ؟ أقصد بأن المقدسات لا يمكن المساس بها أصلًا كما يقتضي التقديس، وغضبنا لها ليس إلا غضب لأنفسنا متلبسًا في زي الدين. “المقدس أكبر من أن يُساء إليه”، هذه قناعة يجب أن يؤمن بها كل مؤمن، وهي أساس من تعظيمهم للمقدس.
نحن نشعر بالإهانة فعليًا عند كل أمر لا نستطيع إثباته، كل أمر فيه قفزة إيمانية يُغيّب فيها العقل، والإثبات المنطقي الكامل. لو أنني نعت “بيل غيتس” مثلًا بأنه فقير، فلن تتلقى كلمتي سوى السخرية، وأرصدته وأملاكه كفيلة بتكذيبي والاستهزاء بادعائي. بينما إذا ما نعت أحدهم في شأن لا يستطيع إثباته -لعدم القدرة على القياس عادة- فسيشعر هنا بالإهانة، كأن تنعت أحدهم بالغباء أو عدم القدرة. وهذا فعليًا هو ما يُشعر الناس بالإهانة، كل ما لا يمكن إثباته بالتجربة، أو ما لم يثبته “المختبر” أو “المعمل” كما يُقال، ولا يمكن إثباته بتسلسل منطقي بسيط يتقبله الجميع. وأعتقد بأنه هنا يأتي دور الإيمان، الإيمان الذي يخبرك بأنه لا يمكن الجور على معتقداتك، وبأن هذه المعتقدات والآراء صحيحة بشكل قاطع. ولهذا فأنا أعتقد بأن التفاعلات السلبية مع أي كلمة جارحة أو سيئة تجاه معتقداتنا تدل بشكل أول وأخير بأن هذا الإيمان الذي ندعيه لا يخرج عن كونه مجرد كلمات نتشدق بها ونتفاخر بها على الأمم.
ليس على الدولة أن تحمي مقدسات شعبها من رأي أو كلمة مخالفة، وحتى لو كانت غير موضوعية أو سلبية، إنما عليها أن تتيح الجو لكل الآراء، مما يجعل من الآراء الدينية المطروحة أشد تماسكًا وأقبل للتصديق والإيمان بها. أعتقد بأن واجب الدولة تجاه شعبها الذي يشعر بالإهانة عند المس بمقدساته أن تهيء لكل الآراء كافة السبل والمساعدات في سبيل النضج. فالفكرة لن تنضج بشكل كامل مالم تشعر بالتهديد، عندما تخاف بأن تغلبها فكرة أخرى من حيث المتانة والمنطق. ولهذا يجب على الدولة أن تكفل حق التعبير لكل فكرة ورأي، أعتقد بأن هذه هي الخدمة الوحيدة التي تقدمها الدولة لشعبها ومقدساته.
أما مسايرة الشعوب في طلباتها وغضبها العاطفي تجاه كل المسيئين لا يزيد الأمور إلا خبالًا، ويهيء لأولئك المتكلمين بعاطفة دون عقل مكانة ومنصبًا لا أراهم يستحقونه، وأعتقد بأنه يضرهم ويضر معتقداتهم، ويجر الشعوب إلى مزيد من الدمار لا أكثر. حتى يتحول مقدسهم في النهاية إلى مجرد ثقافة تتناقلها الأجيال، دون الوعي بها، وبرفض تام لأي نقاش فيها أو حتى تصويبها عند الخطأ. وسيدخل في دائرة التقديس ما ليس منها، مما يمنح لأولئك الدخلاء سلطة متطلقة وبيئة أكبر للإفساد والاستبداد.


(*) مقولة مالك بن نبي كاملة : “الحكومة مهما كانت ما هي إلا آلة اجتماعية، تتغير تبعًا للوسط الذي تعيش فيه وتتنوع معه. فإذا كان الوسط نظيفًا حرًا، فما تستطيع الحكومة أن توجهه بما ليس فيه”. (كتاب شروط النهضة)

مشكلتي مع التأريخ

قياسي

كثير ما يردد البعض بأن اقرؤوا التاريخ، كثير ما سمعنا أناس تردد بأنهم لا يتكلمون ولا يطرحون أفكارهم عن فراغ، وإنما عن حقائق ووقائع تاريخية.
قد يبدو التاريخ وكأنه مجرد حقائق ووقائع حصلت بالفعل بالنسبة للكثير، وقد تبدو بعض التفاصيل التاريخية مسلّمات بالنسبة لآخرين، وقد تبدو مستقبحة عند البعض كلمتي بأني لا أثق بالتاريخ، لإيماني بعدم حيادية المؤرخين وتأريخهم.
مشكلة عدم الحيادية هي ليست خطيئة كما يظن البعض، كما أن الحيادية التامة ليست بالشيء الواقعي أو الممكن. أنا لا أتهم أحدًا بسوء نيته، وإنما أصف واقعًا بشريًا بحتًا، تتعرض له كل محاولة للتأريخ
يعتمد التأريخ بنسبة كبيرة على مشاهدات المؤرخ، والذي قد يتجاوز أحيانًا ليسجل أشياءً ويتغاضى عن أشياء لا يراها ذات أهمية، والتي قد تكون بالفعل كذلك، وقد لا تكون. فهو بذلك يعتمد بشكل كبير على عقلية واختيارات المؤرخ للأحداث.
فضلًا عن أن الإلمام بكامل الأحداث يبدو مستحيلًا، فقد يلتقط المؤرخ سببًا يكون ثانويًا فيجعله محوريًا، وقد يحدث العكس وبكل بساطة.
كل هذا وأنا لم أتعرض لأولئك الذين يحاولون فعليًا تغيير التاريخ، أو حذف بعض من تفاصيله أو إضافة شيءٍ آخر. لغرض مادي أو لدعم فكرتهم أو لأيٍ من الأسباب الأخرى.
بغض النظر عن محاولة المؤرخ لأن يبدو محايدًا، فالحيادية ضرب من الخيال. وستقضي بشرية المؤرخ بانتماء معين، ويصعب التخلص من الانتماءات بشكل تام. مجرد. فطالما أن فيك حب أو كراهية فأنت بذلك قد تخليت عن حياديتك.

سأخصص هذه المرة بعضًا من الأحداث لدعم فكرتي :

١. تقول بعض كتب السيرة النبوية بأن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم قد استخدم المنجنيق في حصاره لمدينة الطائف، وتعزي إليه مقولة بأن ارموهم بغض النظر عن الأطفال والنساء والشيوخ، طالما أن الهدف هو فتح المدينة ودخولها. وأعتقد باستحالة استعمال المنجنيق بداية في حصار مدينة جبلية كالطائف، فضلًا عن أن هذا النص لا يرد إلا عن أحد الكتاب الذين يدعمون فكرة قتل غير المسلمين بلا جُرم.
٢. في كتاب “قصة تونس” للأستاذ راغب السرجاني، قال بأن الرئيس بوتلفيقة كان يأمر باعتقال كل من له أكثر من زوجتين في عهدته، الكلمة نفسها يرددها الكثير من كتاب التاريخ (لن أقول عنهم مؤرخين). ما لم يقوله هؤلاء بأن الرئيس بوتلفيقة كان يعمل بفتوى الشيخ محمد دراز، التي يوافقه فيها الإمام محمد عبده قبلها، والتي تقتضي بأن شرط العدل للتعدد كان تعجيزيًا.
٣. قد يكون التاريخ السعودي هو الأكثر تعديلًا في الآونة الأخيرة، بداية من قصة دخول الرياض بأربعين رجل، دون ذكر المساعدات البريطانية. مرورًا بقصة جيهمان التي تواجه الكثير من محاولات الحذف من التاريخ. وغيرها الكثير الكثير.

خطوة كَنديدية

قياسي

قبل شهر أو يزيد، كنت أقرأ روايةً للأديب الفرنسي فرانسوا ماري أوريه، المشتهر باسم “ڤولتير”. حملت الرواية اسم “كَنديد” نسبة إلى شخصيتها الرئيسية، وحملت اسم “التفاؤل” أيضًا نسبة إلى المعنى الذي أحب الكتاب أن ينشره مع صفحات الرواية في عام ١٧٥٩ ميلادية، عندما نشر الرواية أول مرة. (نقلها إلى العربية الأستاذ عادل زعيتر في عام ١٩٥٥ ميلادية)

لم تكون الرواية صاحبة أسلوب أدبي شيّق، ولم تزينها حبكة قصصية ممتعة، حتى أن أسلوبها القصصي كان سرديًا متسارعًا بشدة، لكنها كانت تطرح فكرة التفاؤل بنقدية وتهكم واضحين. المثير في الرواية بالنسبة لي كان قصة نشرها ؛ فقد قام ڤولتير بنشر القصة بادئ الأمر دون أن يحمّلها اسم كاتبها، بل وقام بطباعتها في أرض بعيدة عن أرضه (لست متأكدًا إن كانت السويد أو النرويج).

بعيدًا عن القصة وتفاصيلها الكثيرة، فقد كان أكثر ما يشغلني هو قرار المؤلف عندما قرر نشرها أول مرة دون أن ينسبها إلى نفسه، أتخيل قارئًا مبتدئًا يسأله متهكمًا مرة عن إن كان يقوى على كتابة مثلها، ويرد في نفسه بأن كل قصة ستحمل نفسًا مغايرًا من كاتبها، لكنه يرد بصوت مسموع نافيًا. ما الذي يدفع كاتبًا مرموقًا مثل ڤولتير للتخلي عن بعض سمعته في سبيل نشر الكلمة ؟!

قال لي صديق مرة، بأن كل كلمة نقولها مهمًا كانت سخيفة، سيكون لها ثقلها في التغيير. وأعتقد بأنني سأوافقه لفترة، وسأضيف بأن هذا سبب إضافي يحملنا على وزن كلماتنا كل مرة نقولها، سبب إضافي يحملنا على السكوت عن كلمات وكتابة كلمات أخرى .. كل كلمة لها وزنها الثقيل إذا ما حوكمت في إطارها التاريخي، كل كلمة تبدو سخيفة بادئ الأمر، مهترئة ومليئة بالاستفهامات واللاأدرية، وتظهر بمظهر الساذجة عندما تحاكم على منصة واحدة مع أخرى لاحقة.

نحن بحاجة إلى كل خطوة جديدة، كل خطوة تعبّر عن دواخلنا .. إلى كل خطوة كَنديدية جديدة.

الخير والشر

قياسي

الخير والشر .. يتم استخدام هاتين الكلمتين عادة لتوضيح ما يسمى بالثنائيات، لأنها تبدو بسيطة ومفهومة لدى الجميع. فكرة الثنائيات تعبر عن أي صفتين متضادتين تمامًا، وعادة ما يتم استخدام هذا الترتيب للقيم وللمبادئ لتقديمها بشكل مبسط للعامة، فالأفكار البسيطة تنتشر بشكل أسرع غالبًا.

الخطأ الأبرز في عقلية التضاد تكمن في تعميم الثنائيات على ما لا يقبل الثنائية، فيتم بذلك ربط قيمتين بعلاقة مغلوطة في النهاية، ينتج عن ذلك الكثير من الأفعال الخاطئة. وكمثال من الواقع المعاصر ؛ يربط الكثير بين دينٍ معين ليكون ضد الكفر، ويجعل بعد ذلك الإنسانية مرتبطة بالعبادة على ذلك الدين، مما يجعله بالضرورة يستحل كثيرٍ من التجاوزات على غيره، ويبرر لضميره بذلك اعتداءاته وسرقاته للمختلفين معه في هذه القيمة. شخصيًا أعتقد بأن الكفر ضده الإيمان، أما الأديان فهي بحر من الاختيارات للوصول للإله. خطأ آخر يقع فيه الكثير هو جعل الاستبداد والديموقراطية متضادتين، مما يجعله مُطالبًا لتطبيق النظام الديموقراطي باستمرار، متهمًا كل من لا يدعمه في مطالبه بالتخاذل والتشريع للاستبداد. بينما أرى الاستبداد ضده المشاركة بين الشعب والدولة، أما الديموقراطية فهي اجتهاد إنساني وأحد أنظمة الحكم التي قد تبدو الأكثر نضوجًا حتى الآن.

تبسيط الأمور بهذه الطريقة منتشر كثيرًا في العالم، وليس حصرًا على المجتمع العربي كما يروج البعض. على سبيل المثال ؛ قامت الولايات الأمريكية المتحدة بالتسويق لنفسها وكأنها الجيش الخيّر، بينما الإرهاب هو الشر المطلق على الأرض، والذي سيقوم الخير بدوره بمحاربته والحد من انتشاره. بهذه الفكرة البسيطة التي تم تقديمها للجماهير، ألبس الشعب الأمريكي الجماهير العربية روحًا شريرة، فكرههوهم وكرهوا كل شيء عربي، وهذا ما يفسر العداءات وعدم قبول الكثير منهم لأي شيء عربي .. ففي قرارات أنفسهم، العربي جسم تتلبسه روح شريرة.

عندما أشاهد تطور القصص في الرسوم الكرتونية اليابانية، نجد أنهم في فترة ما كانوا يسوقون للخير والشر، وكأن أحد الشخصيات خيّر والآخر شرير، بينما انقلبت القصص حاليًا ليجعلوا وكأن الخير والشر ليست روحًا تتلبس الإنسان، فليس الخيّر ذو طبع لطيف ولا تتشكل فيه كل الصفات الحميدة، وليس الطرف الآخر شريرًا بالمطلق. يتم تقديم الشخصيات الكرتونية اليابانية المعاصرة وكأن الخير والشر يحددهما انتماؤنا إلى طرف دون آخر، وكأن الشخصيات كلها تبني حكمها على فهمها للموقف، الكل يظن بأن خيّر، وبأن كل من يعيقه ويتربص له شرير، ونحن بمتابعتنا للقصة نختار طرفًا في المعركة، ونقرر بشر الأطراف الباقية.

التزام بالكتابة

قياسي

المشهد ( I ) :

لقاء أول، بعد فراق طويل صنعته الحروب، فراق دام لخمس سنوات. لقاءٌ امتلأ بالكلمات، وكل الذكريات التي تسارعت أمام أعينهم وعلى ألسنتهم، لقاءٌ تشبع بالنظرات الدافئة اختزنوها لهذا اليوم. ومن بين الكتب التي امتلأت بها مكتبته الكبيرة، أخرج لها كتابًا منها، أخبرها بأنها تحمل بين يديها الجزء الأول من سلسلة كتب خطها بيده، سلسلة من عشر كتب فيها كل ذكرى وكل خاطرة عنها. في صفحة عشوائية فتحتها وجدت وردة أعطته إياها ذات مرة، وخاطرة كتبها هو عنها، في صفحة أخرى عشوائية وجدت خاطرة أخرى له، ورسالة كانت قد كتبتها له ذات مرة.

المشهد ( II ) :

في لحظة غضب جنونية، صرخ في جمع من تلك البطاقات الجاهزة المبتذلة. فقد كان يعتقد بأن هذه الكلمات التي يكتبها غيرنا على ألسنتنا تصنع بيننا وبين أنفسنا سورًا يومًا بعد يوم، تقتل من دواخلنا شيء متصل بكل ذرة روح فينا، “لماذا لا يكتب كل إنسان ما يريد ؟ لماذا لا يعبر أي إنسان منا بأسلوبه وبشخصيته وبقلمه الخاص ؟” صرخ منهارًا، وتذكر صديقًا قال له يومًآ : “الطريقة المثلى لتجاوز امرأة هي تحويلها إلى أدب”.

المشهد ( III ) :

قال لي الأول بأنه يكتب بشكل يومي كل ما يمر به في يومه، بأنه يخصص ساعة في نهاية اليوم يكتب فيها لمذكرته، قال لي بأنه مستمر على التزامه هذا لأربع سنوات حتى الآن، وبأنه يحتفظ بمذكراته هذه على مكتبته الشخصية، وفي مكان محبب إلى نفسه.

قال لي الآخر بأنه التزم منذ فترة بكتابة كل ذكرى جميلة، التزامه مع الذكريات الجميلة دون غيرها. بأنه يكتب كل لحظة جميلة جمعته بصديق، أو أنجز فيها أمرًا ما، ملتزم مع كل كلمة جميلة وابتسامة صادقة.


أعطتني أمي قبل أيام كتابًا يعود إلى القرن الثاني الهجري، فرحت به بشدة بادئ الأمر، حتى اللحظة التي تصفحته فيها ووجدته مقتصرًا على بعض الصلوات الروحانية الصوفية. لا أخفيكم بأنني تمنيت لو أنه امتلأ باللحظات اليومية البسيطة لذاك الزمن بدلًا من هذه الكلمات التي لا أؤمن بها، تمنيت لو أنني عرفت به طريقتهم في معايشة الحياة، همومهم وأشغالهم والذكريات الجميلة لأناس لم أسمع بأسمائهم منهم يومًا، أو صفحات أخرى عن إنسان يحكي لي الناس عن عظمته، ويحكي لي هو في هذه الصفحات عن أيامه اليومية البسيطة.

أعرف بأنني دائمًا ما نصحت بالتخفف من هذه الحياة والتزاماتها الكثيرة التي تسارع من وتيرة أيامها، ولا تترك منا لنا أي شيء، إلا أنني فعليًا سأدعو لالتزام وحيد حتى الآن، وهو الكتابة اليومية. أعتقد بأن الكتابة اليومية لم تتغلغل فينا بشكل إيجابي إلى الآن، ولا حتى بأي شكل حتى !

سأدعوك لأن تكتب، بأي طريقة تجدها تناسبك في الكتابة، اكتب ما يناسبك أنت، حتى لو اقتباسات جميلة عن غيرك كبداية، لكن توقف عن جعل الآخرين يتكلمون على لسانك.

اكتب عن نفسك، وعن عواطفك وخواطرة. فلن تجد بأي يوم لحنًا أو أدبًا يوافق قصتك التي عشتها

اكتب .. فهذا فعليًا ما يجعلك أقرب لنفسك. اجعل لنفسك ركنًا خاصًا من مكتبتك الخاصة، ركن كتبته بنفسك، ركنًا تعيش كل تفاصيله بنفسك.

اكتب للتاريخ، فهذا التاريخ الوحيد الذي لا يمكن لأي مؤرخ أن يعبث به، أو أن يكتبه حتى بطريقته الخاصة التي تهضم كثيرًا من التفاصيل المهمة.


( I ) : من فيلم The Great Gatsby المأخوذ من رواية عالمية شهيرة بنفس الاسم.

  • ( II ) : من فيلم 500 Days of Summer.
  • ( III ) : الصديق أبان باهبري، ثم الصديق خالد الجابري.