التزام بالكتابة

قياسي

المشهد ( I ) :

لقاء أول، بعد فراق طويل صنعته الحروب، فراق دام لخمس سنوات. لقاءٌ امتلأ بالكلمات، وكل الذكريات التي تسارعت أمام أعينهم وعلى ألسنتهم، لقاءٌ تشبع بالنظرات الدافئة اختزنوها لهذا اليوم. ومن بين الكتب التي امتلأت بها مكتبته الكبيرة، أخرج لها كتابًا منها، أخبرها بأنها تحمل بين يديها الجزء الأول من سلسلة كتب خطها بيده، سلسلة من عشر كتب فيها كل ذكرى وكل خاطرة عنها. في صفحة عشوائية فتحتها وجدت وردة أعطته إياها ذات مرة، وخاطرة كتبها هو عنها، في صفحة أخرى عشوائية وجدت خاطرة أخرى له، ورسالة كانت قد كتبتها له ذات مرة.

المشهد ( II ) :

في لحظة غضب جنونية، صرخ في جمع من تلك البطاقات الجاهزة المبتذلة. فقد كان يعتقد بأن هذه الكلمات التي يكتبها غيرنا على ألسنتنا تصنع بيننا وبين أنفسنا سورًا يومًا بعد يوم، تقتل من دواخلنا شيء متصل بكل ذرة روح فينا، “لماذا لا يكتب كل إنسان ما يريد ؟ لماذا لا يعبر أي إنسان منا بأسلوبه وبشخصيته وبقلمه الخاص ؟” صرخ منهارًا، وتذكر صديقًا قال له يومًآ : “الطريقة المثلى لتجاوز امرأة هي تحويلها إلى أدب”.

المشهد ( III ) :

قال لي الأول بأنه يكتب بشكل يومي كل ما يمر به في يومه، بأنه يخصص ساعة في نهاية اليوم يكتب فيها لمذكرته، قال لي بأنه مستمر على التزامه هذا لأربع سنوات حتى الآن، وبأنه يحتفظ بمذكراته هذه على مكتبته الشخصية، وفي مكان محبب إلى نفسه.

قال لي الآخر بأنه التزم منذ فترة بكتابة كل ذكرى جميلة، التزامه مع الذكريات الجميلة دون غيرها. بأنه يكتب كل لحظة جميلة جمعته بصديق، أو أنجز فيها أمرًا ما، ملتزم مع كل كلمة جميلة وابتسامة صادقة.


أعطتني أمي قبل أيام كتابًا يعود إلى القرن الثاني الهجري، فرحت به بشدة بادئ الأمر، حتى اللحظة التي تصفحته فيها ووجدته مقتصرًا على بعض الصلوات الروحانية الصوفية. لا أخفيكم بأنني تمنيت لو أنه امتلأ باللحظات اليومية البسيطة لذاك الزمن بدلًا من هذه الكلمات التي لا أؤمن بها، تمنيت لو أنني عرفت به طريقتهم في معايشة الحياة، همومهم وأشغالهم والذكريات الجميلة لأناس لم أسمع بأسمائهم منهم يومًا، أو صفحات أخرى عن إنسان يحكي لي الناس عن عظمته، ويحكي لي هو في هذه الصفحات عن أيامه اليومية البسيطة.

أعرف بأنني دائمًا ما نصحت بالتخفف من هذه الحياة والتزاماتها الكثيرة التي تسارع من وتيرة أيامها، ولا تترك منا لنا أي شيء، إلا أنني فعليًا سأدعو لالتزام وحيد حتى الآن، وهو الكتابة اليومية. أعتقد بأن الكتابة اليومية لم تتغلغل فينا بشكل إيجابي إلى الآن، ولا حتى بأي شكل حتى !

سأدعوك لأن تكتب، بأي طريقة تجدها تناسبك في الكتابة، اكتب ما يناسبك أنت، حتى لو اقتباسات جميلة عن غيرك كبداية، لكن توقف عن جعل الآخرين يتكلمون على لسانك.

اكتب عن نفسك، وعن عواطفك وخواطرة. فلن تجد بأي يوم لحنًا أو أدبًا يوافق قصتك التي عشتها

اكتب .. فهذا فعليًا ما يجعلك أقرب لنفسك. اجعل لنفسك ركنًا خاصًا من مكتبتك الخاصة، ركن كتبته بنفسك، ركنًا تعيش كل تفاصيله بنفسك.

اكتب للتاريخ، فهذا التاريخ الوحيد الذي لا يمكن لأي مؤرخ أن يعبث به، أو أن يكتبه حتى بطريقته الخاصة التي تهضم كثيرًا من التفاصيل المهمة.


( I ) : من فيلم The Great Gatsby المأخوذ من رواية عالمية شهيرة بنفس الاسم.

  • ( II ) : من فيلم 500 Days of Summer.
  • ( III ) : الصديق أبان باهبري، ثم الصديق خالد الجابري.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *