الحياة بعيدًا عن المعنى

قياسي

تشارلي تشابلن


لا أظن أنني إذا ما ذكرت (تشارلي شابلن)، الكوميدي البريطاني، أنه سيتشكّل في مخيّلة المستمعين بغير الشارب القصير، مع قبعته الصغيرة، وعصا البامبو التي تتكئ إلى جانبه بملابسه الرثة الفضفاضة، والتي بدورها تضفي طابعًا كوميديًا على تحركاته، حتى البسيطة منها.

لكنني حاليًا لا أقصده في شخصية (الصعلوك) التي اشتهر بها، والتي كان ظهورها الأخير في فيلمه City Lights (١٩٣١)، بعدما نطقت لأول وآخر مرة في نهاية الفيلم، بأغنية غير مفهومة، كلماتها مزيجٌ من عدة لغات، وبعض الإيماءات شارحةً المنطوق.

أنا أقصد (تشابلن) في فيلمه Limelight [١٩٥٢]، الذي يبدأ بأن ينقذ فيه جارته الشابة من محاولتها للانتحار، ليدور بعدها بينهما حوار عظيم، أحسب أنه حجز مكانه في ذاكرتي من مشاهدتي الأولى له، فعندما تبرر الجارة محاولتها للانتحار بعدم الجدوى المطلق في كل شيء، وبأن الحياة غدت بلا هدف أو معنى، يرد عليها (تشابلن): “وإلام الحاجة إلى المعنى؟ مزاولة الحياة عبارة عن رغبة، وليست معنى. فالرغبة هي ثيمة الحياة، هي ما يجعل الأزهار تتفتح بالشكل الذي نراه، وما يجعل الأحجار تنكفئ على ذواتها لتحتوي أنفسها بالشكل الذي نعرفه”.

أنا أحد أولئك المعتقدين بأن فقدان الرغبة في مواصلة الحياة لا يمكن أن يكون حالةً طبيعية، بأي شكل من الأشكال. وبأن اعتناق هذه الفكرة هو حالة مُكابرة شاذة، وإن ادّعى أصحابها عكس ذلك، وأن هذه الفكرة ستهدد بشكل قوي إذا ما أُحيلت الاختبار بشكل جديّ على أرض الواقع.

وأعتقد بأن الإنسان لا يمكن أن يكون عدميًا بالمطلق، بل إن الحالة العدمية المطلقة لا يمكن أن تتواجد إلا كشخصيات أدبية، صيغت الحياة من حولها لأجل إظهار هذه الصفة بتجلياتها فيهم. كالشخصية الرئيسية في رواية (الغريب) للأديب الفرنسي (ألبير كامو)، فهي شخصية لم تبد أي اهتمام بالحياة، رغم سير الأحداث في القصة، ولم ترغب أبدًا في الحياة إلا عندما وجدت طريقًا إلى الحب، وقتها فقط شعرت برغبة في مواصلة الحياة.

يقول (كامو) في مذكراته: “بؤس هذا العالم وعظمته، في كونه لا يهب الحقائق أبدًا، وإنما الحب فقط. فالعبثية تسود، والحب وحده ينقذنا منها”.

فقد يكون أحد مميزات عصرنا الحالي هو حالة عدم التأكد من أي شيء، فلا يسود الساحة غير الشك، وكل فكرة معرضة للسؤال، وقد يعفو عليها الزمان إن هي لم تتمكن من الإجابة والدفاع عن ذاتها بشكل مقنع. لن أتطرق إلى ما كان ذلك إيجابيّاً أم سلبيّاً على المدى الطويل، لكنني سأقول إن حالة الشك هذه صعبة، وغير محتملة للأغلبية. وأعتقد بأن هذا هو أحد الأسباب في أن القصص الرومانسية تجد طريقها بسهولة إلى القراء، وإلى مشاهدي الأفلام والمسلسلات التلفزيونية.

فالحب يقدِّم ذاته إلينا كالمؤكَّد الوحيد والأجدر بالثقة في عصرنا الحالي. يقول الروائي البرتغالي (خوزيه ساراماغو) في روايته (قصة حصار لشبونة) على لسان إحدى الشخصيات: “أنا لست متشائمًا، وإنما متشكك راديكالي. وقد يكون الحب هو الشيء الوحيد الذي يؤمن به المتشكك، أو بالأحرى أن نقول أنه بحاجة إليه”.

وفي مواجهة ذاك الشك العارم الذي يجتاحنا، يدافع الأغلبية عن أفكارهم وآرائهم، خاصةً أولئك الذين يُعرِّفون أنفسهم للعالم وِفق تلك الآراء، ومن هنا يظهر مَعلَم آخر للعصر، وهو حالة الذعر أو الخوف، خوفٌ من خسارة ذواتنا إن خسرنا تعريفنا لأنفسنا، ومن هنا نتجت ردات فعل ساذجة في الدفاع عن الأفكار، أو الدافع للتشبث بالحياة، كالإيجابية المطلقة التي ترفض كل مآسي العالم، فتنكرها تارةً وتسخِّفها تارة أخرى. دعوني أقول إن أولئك الإيجابيين هم الأكثر انكسارًا إذا ما عصفت الحياة يومًا.

“لماذا نستمر في حياتنا؟ وما الذي يدعونا للتشبث بها بقوة؟”، يتساءل تشابلن في حواره السابق مع جارته، ليكمل مجيبًا: “كل شيء. الحياة ذاتها أليست سببًا كافيًا؟ لأن نعيش، نعاني، نستمتع. الحياة قد تكون جميلةً رائعةً، حتى بالنسبة لأسماك الزينة”. ويضيف: “ستجد الحياة جميلةً إذا لم تكن خائفًا منها. كل ما أنت بحاجته هو التحلّي بشيءٍ من الشجاعة، والخيال، وشيءٌ من النكتة”. فلا يمكن مواجهة الحياة دون السخرية من معاناتها، فمن حق الضحكة الجيدة علينا أن تبدد خوفنا، وأن تمحي عنا حالة الذعر هذه.

أعتقد بأن الحياة مدينة لنا باعتذار لأنها لم تتجلّ لنا كاملة، لأنها بخِلت علينا بشيء مما تملك. وأعتقد بمقولتي تشابلن في أحد حواراته الصحفية: “الحياة تراجيدية إذا ما نظرت إليها عن قرب، كوميدية إذا ما نظرت إليها بالمجمل”. و“بأنك ستضاعف من ذاتك، كلما تعلمت أمرًا جديدًا”.

ضاعف من ذاتك، تلقَّ من الحياة تجاربها قدر المستطاع. ومارس الحياة بكل تفاصيلها، الحياة رغبة، مزاولتها رغبة، والمعرفة هي الأخرى رغبة. وفي النهاية، “فالحب والمعرفة، كلمتان مترادفتان للشيء ذاته”، كما يقول (ألبير كامو).


تم نشر هذه المقالة في صحيفة (هافينغتون بوست عربي).