قصة قصيرة (٠٢) ؛ مجنون المدينة

قياسي

يحكى أن شابًا اشتهر بين بني بلدته بموهبته في الرسم، كان يرسم في أرض بين الخيال والواقع، لا يعيش عليها غيره، كان مصدر إلهام وريشته لشبان المدينة، ومصدر فخر عند كبار السن فيها.
كثيرًا ما احتفى به أقرانه، أو قضوا ليلة أو اثنتين يحتفلون بإبداع جديد أعلنه عليهم.
بأحد الأيام ؛ سمع عمن يُلقبه الشعب بـ”مجنون المدينة”، هو أقرب للشائعات منه لأي تجسد آخر، أقرب للأسطورة في الرسم على لوحات يصنعها الشيطان، يُقال دائمًا بأنه أفضل من أمسك فرشاته في تاريخ المدينة. حاول ذاك الشاب سؤال البعض عن مجنون المدينة هذا، إلا أن الكل يتهرب من الإجابة، أو ينهره على سؤاله ويعتبر ذلك تهورًا أو تجاوزًا للأدب حتى.
حتى حققت لها إحدى الصدفات أمنيته، بأن جمعته على رصيف مع ذلك المجنون .. صرخ الأخير ؛ “هم يشجعون رسوماتك أكثر منك، لأنها تعني لهم شيئًا، وبهذا كان اهتمامهم، ارسم ما تتمنى أنت بعيدًا عن إراداتهم، وستجدهم ينقرضون من أيامك، يهاجمونك، ويعدونك مجرد مجنون آخر” .. زفر بضيق وأكمل ؛ “لا تأمن لأي امرئ يعجب بأعمالك أكثر منك، لأنك لن تغدو شيئًا عنده إن توقفت قيمة أعمالك فيه”.

نقطة بين الأديان

قياسي

أحد الأسئلة التي تكررت منذ قديم الزمان، ولم تزل إلى الآن مطروحة بدون جواب تجتمع على صوابيته البشرية كافة، كان عن احتياج الناس للأديان، وهل فعلًا يحتاج العامة لدين يضيف إلى أيامهم صبغته الخاصة ؟ وهل يمكن استبدال الأديان مستقبلًا بدين جديد أو عقيدة جديدة في التفكير ؟

أعتقد بأنه وللإجابة على مثل هذه الأسئلة أن نرجع إلى أن نرد الأمور لأصولها لفترة .. إلى نظرة إلى البداية.

بداية ؛ ومع الإبصار الأول للإنسان إلى الكون من حوله، وبداية وعيه لما يحيطه، تبدأ مباشرة ثلاثة أسئلة رئيسية بالتشكل في رأسه ؛ الأول عن نفسه كإنسان، والذي يقوده بالضرورة إلى البدء والنشأة، وبذلك يكون السؤال الثاني، والذي يدور عن الإله، أما السؤال الثالث فهو عن الكون الذي يحيطه، من حيوانات وشجر، وبقية المخلوقات بالعموم.

ومع الثورة المعلوماتية الأخيرة، والتباين والتفرع المتزايدان في العلوم، أجدني مضطرًا إلى تقسيم آخر للأسئلة الثلاثة ؛ القسم الأول إلى الأسئلة القابلة للاختبار والتجربة والتي تضم السؤال الثالث بكامل تفرعاته. أما القسم الثاني فهي تميل إلى الاستنتاج وإلى قفزات منطقية وأخرى إيمانية، وتضم السؤالين الأولين، عن الإله وعن الإنسان.

وبطبيعة الحال ؛ فاهتمام الناس بالأسئلة يختلف من إنسان لآخر، يميل الناس إلى تصديق رجال الدين عادة والفلاسفة أحيانًا، بالنسبة للسؤالين الأولين، وإلى علماء العلوم التطبيقية كما اصطلح على تسميتهم مؤخرًا، بالنسبة للسؤال الثالث والأخير. وفي النهاية ؛ يختلف اهتمام الناس بهذه الأسئلة حسب وعيهم، وتختلف صياغة أجوبتها وتصاعدها في الأهمية بالنسبة إليهم، حسب نظرتهم التي صيغت في حياتهم  .. وبهذا تكون وظيفة رجال الدين والفلاسفة والعلماء التطبيقيين، هي صياغة الرأي العام حول الأسئلة الثلاثة الأم.

فتكون وظيفة الأديان عندي هي الإجابة عن الأسئلة الأساسية، والتي تدور حول الإله والإنسان. وباكتسابها صيغتها الإيمانية والمقدسة، فهي تميل إلى سد السؤالين بأجوبة ثابتة، مما يتيح للعامة متابعة حياتهم الشخصية والعملية، وطريقتهم في إعمار الأرض، لتتناسب مع حاجياتهم والطبيعة من حولهم.

ونتيجة لثورة الشك التي تعصف عالم الفلاسفة، ونتيجة للإيمان وللقفزات الكبرى عند رجال الدين، ولميل العامة إلى الراحة والثوابت أكثر من المتغيرات، أجدهم يتجهون إلى رجال الدين في مثل هذه الأجوبة. لهذا أعتقد بأنه كلما زادت أخطاء رجال الدين وتجاوزاتهم الأخلاقية، كلما تغلغلت الرذيلة في المجتمعات. وأجدني مقتنعًا لهذا بأن رجال الدين هم أول الداعين إلى الله وإلى الإلحاد معًا، وتتحدد انتماءاتهم الدعوية حسب تجرعهم بالفضيلة أو بالرذيلة، وحسب طريقتهم في تقديم الدين، وإلى توافقه مع الناس ومع طبيعتهم البسيطة وفطرتهم السليمة.

شخصيًا ؛ أميل لأن تكون الأديان ربانية في طرحها كما تزعم بأنها ربانية في فكرتها، أريدها متغلفة بالرحمة، بعيدة عن عالم الكراهيات الملعون، أرديها بسيطة في تقديمها، عميقة في فكرتها، فتلامس ببساطتها بساطة العامة، وتكسب بذلك انتشارها، وتلامس بعمقها تصديق الناس وإيمانهم.

* ملاحظة : هذه التدوينة أحد أفكاري في لحظة ما، وقد تتغير كليًا حتى قراءتك لها .. أحد أهدافي من هذه المدونة، كان رصدي للتطورات الفكرية عندي.

خاطرة مبعثرة (٠٦) ؛ والوعي منفى

قياسي

لا يغرنك تراقصي كالنيران الشرقية، فضربات الأقدام الغزالية لا تخص الطروبين.

لا تكترث لهدوئي أو لثبات خطواتي، فهي ليست إلا قشرة لإعصار شكوك لا يرحم.

لا تبتسم ولا تترنم لألحان ضحكاتي، فلكل ضحكة ثمنها من الأحزان.

لا تثق بانتصارك على بؤسي إذا ما أشركتني فرحتك، كل ما في الأمر أنني لا أطيق أن أكسرك، فكذبت بابتسامة.

أنا على أوراقي إله، أخلق الكلمات بصفتي أديبًا، وأتلاعب بالحياة لأنني أعرف شيئًا عن الفلسفة. ولكني في حقيقتي لا أطيق كل هذا ؛ أنا مطالب بأن أحافظ على نقاوتي من كل كراهية، بأن أعود من وسط الوحل نظيفًا أبيض الملابس، بأن أكون ربانيًا بين أناس يحاصرون ربهم في محراب صغير، بأن أكون سماويًا في مجتمع يتاجر مع سمائه .. هذا ضد بشريتي، لا يمكن أن يكون، ليس حقيقيًا.

سمعت مع أولى خطوات حياتي رجلًا ينادي : “الجهل وطن، والوعي منفى”*، ظننته يعنيني بادئ الأمر، لكني هززت كتفي ومشيت، اغتررت بنفسي، ودخلت إلى منفاي بإرادتي .. حتى ضاعت خطوتي مني.

كل الطرقات هنا عبودية، كل المصابيح هنا ظلام، كل المشاعل سراب، لا حقيقة هنا إلا عيناي المختبئة بين كفاي، بكائي الطفولي، صارخًا بألم التيه في مملكة الخيال هذه، والنور المتراقص شامتًا، بأنه حتى الآلهة هنا تبكي، المزيفون منهم فقط.

وبين كل غيوم سمائي، لامست كتفي يدها الملائكية، بدت حقيقية هي الأخرى، صادقة وهي تهمس ببطء أن ارسم طريقك الذي لا يتيه، قاطعت كلماتها صارخًا كفاكِ أملًا، كل الأمل كذبة عند أولى اختباراته. أمسكت يميني، وربتت على كتفي بتفهم، وأكملت همساتها الهادئة ؛ بشريّ أن تتيه، محتوم عليك أن تموت، لكنك لن تموت بلا تضحيات، فاختر بين إنسانيتك وبشريتك، مستحيل هو خلودك، صعب أن تحيى من رمادك، سهل جدًا أن تموت، محتوم عليك أن تموت غريبًا، عن نفسك أو عن غيرك، اختر بأي جنون ستعيش، ولا تنسى بأنك سليل الحقيقة الوحيدة، وبأنني طريقك إليك، أنا نورك في المسير، أنا خليقة دموعك.

(*) إميل سيوران

٢٠١٣ | خواطر من #مصر (٣)

قياسي

خاطرة (٧) : ساقية الصاوي

بعد عودتي من مصر، كتبت في أحد مواقع التواصل الاجتماعي ؛ “ساقية الصاوي، سور الأزبكية، الأوبرا المصرية، معرض القاهرة للكتاب .. كلها أمور تضعنا خلف مصر بعشرات السنين”.

تُعرف ساقية الصاوي نفسها بأنها “مركز ثقافى شامل، تحترم وتقدر الإنسان دون النظر إلى اعتبارات طبقية، مادية كانت أو مجتمعية، ولذلك فإنها لا تفرق فى المعاملة بين روادها من الجمهور، ولا تفرق كذلك فى المعاملة بين الفنانين وتتعامل معهم بأساليب موحدة وعادلة.”.

فكرة ساقية الصاوي الأولية بأنها مسرح ثقافي، يقدم بعضًا من المسرحيات، الحفلات الموسيقية، المحاضرات، الدورات التدريبية، والكثير الكثير من الأنشطة المتنوعة. تقيم من فترة لأخرى بعض الحملات التوعوية الاجتماعية، بأسلوب لطيف وخفيف متقبل من الجميع.

أهمية الفن والمسرح تكمن في أنه المقاربة الأقوى بين الفكر والشارع ؛ فعلى المسرح يشدو المفكر بكل أفكاره، ويغني المثقف بكل استنتاجاته، ويصرخ كل متألم بما يؤلمه. كما أن الفن تسلية للروح أي تسلية، يجدد لها ما تشرب، ويرسم على ثغرها ابتسامة تقويها في يومها القادم.

محزن أن تقوم مجتمعات، لم تتعلم بأن “الفن يمسح عن الروح غبار الحياة اليومية”، كما يقول بابلو بيكاسو.

كلمة أخيرة

عودة إلى السؤال الذي كان يشغلني بداية وصولي إلى مصر .. أعتقد بأنني سأعود إلى الأراضي المصرية مرات ومرات، وجدت فيها شيئًا من الوطن الذي كنت أتمناه، وشيئًا من الإنسان الذي أحب.

موقع ساقية الصاوي الرسمي http://www.culturewheel.com