القيادة عندي

قياسي

وقف على تلك المنصة المزينة بصوره الشخصية، مكتوب عليها اسمه بخطوط عريضة. نظر إلى الجمع الذي أحدثه خبر إلقائه خطابًا لليوم، لم يبد مستغربًا تلك الحشود التي جمعتها كلماته الرنانة وخطبه الصداحة. سمع أحدهم يحادث زميله بأن جارتهم ذبحت ابنًا لها البارحة لما رأت منه من معارضة لزعيمهم هذا، فابتسم بدوره ابتسامة تتشبع زهوًا وغرورًا، والتفت إلى صديق له يقف خلفه قائلاً : “أنا صانع هذه الازدحامات، كلهم أولاء جمعتهم كلماتي. أنا صانع الشعب وصانع حياتهم، أنا فكرتهم وتفكيرهم، أنا مستقبلهم ومصيرهم”.

قد تبدو هذه الكلمات مثيرة للاشمئزاز عند قراءتها، إلا أن قائلها هذا يمثل للبعض -إلى الآن- قدوة بشكل أو بآخر، ولا يزال الكثير يعتبرونه رمزًا في القيادة والخطابة. وبعيدًا عن أهداف (أدولف هتلر) الحمقاء في نظري، يسرني إخباركم بأنني أيضًا غير مقتنع به كقائد حتى .. ليست هذه القيادة التي أعرف.

في نظري ؛ القائد الحقيقي لا يعطي شعبه فكرة ولا يقنعهم بتصوراته وقناعاته الشخصية، مستخدمًا موهبته الخطابية، ومهاراته في الإقناع. فهو ينطلق من منطلقاتهم واعتقاداتهم، ولا يحتاج أصلاً إلى استخدام مهاراته في الإقناع عليهم. القائد لا يبحث عن الأضواء، ولا يترقب الفلاشات ولا ينتظرها، ولا يضع نفسه في واجهة كل الأعمال والحركات، فكل ما عليه هو أن يدع شعبه ويدعوهم إلى سكب كل ما بجعبتهم من مهارات وأفكار لتزهر طرقات المدينة.

وشخصيًا ؛ أعتقد بأن (المهاتيما غاندي) أكثر قيادية من (أدولف هتلر)، وأحب دعم تفضيلي بمقولة المهاتيما : “لم أحرص على تعلم الشطرنج ولم أحب ذلك، لأنني لم أفهم كيف يموت الجنود والجيش بأجمع في سبيل حياة الملك”.

من الخطأ أن تكون هناك فجوة بين الشعب والسلطة، أو أن تكون السلطة موجهة للشعب.

خرافة الإنسان السوي

قياسي


كان منظره مثيرًا للسخرية ؛ بشعره الذي يبدو وكأنه لم يعرف مشطًا قط، وملابسة المقلمة غير متناسقة الألوان، وعينيه اللتان تنظران ببلاهة إلى اللاشيء، وكأنها تبحث عن شيء ما غير موجود أصلًا . كثيرًا ما كانت تعترضه كلمة ساخرة أو تعليقًا مضحكًا على شكله أو على أحد تصرفاته، لكنه لم يكن يعير ذلك اهتمامًا، أو بالأصح .. لم يكن يعلم بأمر تلك الكلمة أو الضحكات، فقد كان يفكر في أمرٍ مغاير تمامًا يسلبه تفكيره وتركيزه. سأله بعض الأصدقاء بشيءٍ من الحرج عن ملابسه التي لا يغيرها بتاتًا، فكانت إجابهم منظر الدولاب الممتلئ بملابس متشابهة، ترافقها ابتسامته الهادئة وإجابته بأنه لا يمتلك وقتًا يصرفه في اختياره الملابس.

في أرضٍ أخرى وزمن آخرٍ ؛ كان هناك رجل يحتسي قهوته الصباحية بشيء من العصبية، يتأفف مرارًا ويتمتم ببعض الشتائم الصبيانية، كان يقلب فكرته المجنونة التي يؤمن بها حد الثمالة في تفاصيلها ؛ (فكرة التخلي عن النوم)، ظل يفكر في حلٍ لـ “عائق النوم” أو “مشكلة النوم” كما يحب تسميتها، ظل يفكر في تلك اللقاءات التي فوتها بسبب النوم عنها، وفي تلك الأوقات التي أضاعها منتظرًا شخصًا كان نائمًا عنها، ظل يفكر في كمية الأوقات التي أضاعها والإنجازات التي حرم نفسه منها “لأنني كنت نائمًا” .. تمتم بسخط.

من الطريف بأن كرهه الجنوني هذا هو ما قاده للعزلة التي صرفها في قبو بيته محاولاً قتل النوم والاحتياج إليه، متجاهلاً أولئك الذين يطرقون بابه مستفسرين عن عزلته ذعرين، وعادة ما ينصرفون وعلى ثغرهم ابتسامات ساخرة وضحكات مكتومة، والتي لم يلحظها صاحبنا بدوره لانشغاله باختراع ذاك المجسم الغريب الذي كان يجري به بعدها بأيام، صائحًا بأنه فعلها، مطلقًا على نفسه اسم “أديسون قاهر النوم مخترع المصباح”.

ولا أعتقد بأنه كان غريبًا إن علمنا بأن صديقنا الأول لم يكن إلا “آينشتاين” الشهير بإهماله للشكليات، بل وببعض التصرفات والقرارات الخاطئة في مجالات أخرى غير علمية بحتة. لكنه يبقى آينشتاين العظيم بنظرياته واستفساراته وبحوثة التي يصعب قراءتها، والتي بدورها شكلت ثورة علمية ملحوظة الأثر في يومنا الحالي.

أحيانًا أتخيل أيام أولئك الذين أحدثوا تغييرات ملحوظة ؛ سرحانهم المفاجئ واعتذاراتهم لمحدثيهم الذين يطالبونهم ببعض الاهتمام أو الانتباه، أو انسحابهم بشكل مفاجئ من الحفلات والتجمعات، ليدونوا أمورًا خطرت ببالهم. انعزالاتهم المفاجئة، والضحكات التي ألفوها لأن عزلتهم الطويلة لم يكن لها أي ناتج فعلي. وأحيانًا نظرتهم إلى رجلٍ مهندم وتمنياتهم بأن يكونوا بمثل حسنه ولباقته، وخروجهم بعض الأحيان بلباس يعتقدون حسنها إلا أنها تبدو مثيرة للسخرية في أعين الغير. حزنهم على أنفسهم لما ينقصهم من مهارات في التواصل تفقدهم أصدقاءهم بمرور الأيام، وفشلهم الذريع في ترتيب “جملة مفيدة” كما وصفه أحدهم ضاحكًا، وعجزهم عن التواصل مع غيرهم وإيصال فكرة عما يبتغون إيصاله من الأفكار أو التصورات.

أعتقد بأننا -كعرب خصوصًا- لا نحسن التعامل مع هؤلاء الغريبين في تصرفاتهم أو طرق تفكيرهم، وأعتقد بأننا نقتل فيهم اختلافهم الذي أنتج إبداعهم. أعتقد بأننا نحرم أنفسنا من هؤلاء الغرباء ومن النتائج التي يعدونا بها.

أعتقد بأننا نختلق هدفًا غير قابل للتحقيق، نطلق عليه “الإنسان السوي” ؛ بعض التصرفات وبعض الطرق في المعيشة التي تجعلنا في نهاية الأمر مجرد أناس عاديين، وتحرم البعض طريقتهم الغريبة في الحياة، فقط لأنها غير لائقة ..!

ادعموا غرابتكم، وغرباءكم ..!

الكل يتآمر علينا

قياسي

سألت مرة متهكمًا ؛ “هل فعلاً نستحق هذا التآمر من الجميع علينا ؟”

وأعتقد بأنه بدا واضحًا في سؤالي ضمنية قناعتي بصبيانية نظرية المؤامرة، بل وإيماني بانعدام تأثيرها على أيامنا.

يقول القائد النازي الشهير (أدولف هتلر) : “إذا ما أردت توحيد صفوف شعبك خلفك، فأوهمهم بأن هناك عدوًا يتصيدهم، وأخبرهم بأنك ستقاتل إلى جانبهم”، ويكفي القول بأن كلماته أضحت أسلوبًا لاكتساب الشعبية ومساندة الأغلبية، تكملها مقولته الأخرى : “اكذب كذبة كبيرة، واجعلها بسيطة، وداوم على ترديدها، وسيصدقها الناس في نهاية المطاف”.

وبالفعل ؛ فكل من يبغي لفكرته ترويجًا يعمد إلى هذا الأسلوب ؛ تخويف الإسلاميين من العري والنتائج البشعة التي يعد بها الليبراليين، أو ترديد الليبراليين للقمع المتوقع وللاستبداد الديني الذي يُقرأ في خطوات الإسلاميين، يتبع ذلك استشهاد كل طرف بأقوال المتشددين في الطرف الآخر لدعم رأيه. وعلى الصعيد العالمي نلحظ التخويف المستمر الذي تبنته الولايات الأمريكية المتحدة من الاتحاد السوفيتي سابقًا، ومن الحركات الإرهابية في الوقت الحالي .. الكل في النهاية يريد أن يشرعن وسيلته وغايته، أو أن يخفف التركيز على أخطائه وتعدياته بالتركيز على أخطاءٍ كبيرةٍ لأطراف أخرى، ناشرًا بذلك نظرية المؤامرة، مغذيًا إياها.

تذكروا بأن “الطريق إلى جهنم محفوف بالنوايا الحسنة”.

في النهاية ؛ كل من يقف على مسرح الحياة معرض للخطأ، ولاستخدام مثل هذه الوسائل والأساليب ؛ الدولة التي تخوف سكانها من الدولة الأخرى، التنظيمات، الأفكار، الأحزاب، الرموز .. والقائمة تطول !

أحيانًا أفكر فيما لو خفيت عني مؤامرات الغير، فهل سيكون ضرر اخفائها أكبر أم إعلانها وتأهبنا لما لم يحدث بعد ؟ أحيانًا أعتقد بأن غرقنا في تفاصيل الغد حرمتنا من معايشة اليوم ومتعتها، بل وإنه يقنعنا خفية بأن ننتظر المستقبل الذي يصنعه بنا غيرنا، وحرمنا ذلك صناعة مستقبلنا بأنفسنا. حتى الأفكار الراقية التي عرفناها فقدت معانيها، بل ويخيل إلي أحيانًا أننا معرفتنا بغيرنا صارت أقوى من معرفتنا أنفسنا، صرنا نتعرف أخطاء غيرنا أكثر مما نعرف مكامن قوتنا .. فضلاً عن التشنج الدائم لانتظارنا المصائب، وعن العقلية القتالية التي اكتسبناها.

ونتيجة للعرض المستمر للأشكال المتطرفة من عالمنا، فقدنا قيمتنا باختلافنا عن بعضنا، أصبح الجميع يريد أن يكون الجميع نسخًا عن بعضهم، وقد يقبل بعض الاختلافات الطفيفة أحيانًا بداعي التحضر.

أحيانًا أعتقد بأنه لا يتآمر علينا غيرنا ..!

تقبلوا عمن حولكم اختلافاتهم عنكم، مهما كانت جوهرية أو طفيفة، واتركوا دعاة الكراهية والمؤامرة يغرقون وحدهم في بحرٍ وهميٍ هم حفروه .. وركزوا على طريقكم في مبادئكم، وعلى طريقتكم في حياتكم !

الألم كنعمة [كن سعيداً ؛ أندرو كاثيوز]

قياسي

إذا كنت تتحاور مع (جون براون) بعد أن أمضى الساعة ونصف الساعة عند طبيب الأسنان وقلت له : “أليس الألم شيئاً رائعاً” فربما يشك (جون) وقتها في أنك مجنون. وبنفس الطريقة، إذا كنت في المطبخ وحرقت إصبعك فربما يكون من الصعب أن تقدر مدى إيجابية هذا الألم.

ولكن دعنا نفترض أنك لم تشعر بالألم على الإطلاق. فمن الممكن أن تستند إلى سطح ساخن لمدة عشرين دقيقة ولا تشعر بذلك إلا بعد أن تستدير وترى أن ذراعك قد أصبحت متفحمة. فإذا لم تكن تشعر بالألم العضوي، فمن المحتمل أن تصل إلى البيت من العمل وعند انحنائك لتخلع حذاءك تقول : “يا إلهي ! لقد فقدت نصف قدمي اليسرى. لا بد أنها قطعت في مكان ما. هل فقدتها عند باب المصعد أم أن هذا له علاقة بكلب جاري (الدوبرمان) ؟ أعتقد أني لم أكن أمشي بطريقتي المعتادة هذا المساء”.

إن الألم العضوي له ناحية إيجابية. فهو تغذية استرجاعية مستمرة ؛ لتخبرنا بما يجب أن نفعله وما لا يجب أن نفعله. فكم سيكون محرجاً إذا اضطررت لأن تفسر عدم قدرتك على تناول الطعام وأنت تتناول عشاءً رومنسياً على أضواء الشموع قائلاَ : “لا أستطيع تناول الحلوى حبيبتي، لأني قمت بقضم لساني منذ قليل” (وبالطبع سوف يكون هذا التفسير بلغة الإشارة).

فعندما نفرط في تناول الطعام أو لم نستطع أخذ قسط كاف من النوم أو إذا كنا نشعر ببعض الإرهاق أو أصبنا بكسر ونحتاج إلى راحة، فإن نظامنا الذاتي الرائع سوف يطلق جرس إنذار لندرك ذلك.

وينطبق هذا على تجاربنا العاطفية المؤلمة. فإذا جرحت عواطفنا ؛ تصلنا رسالة معلنة عن حاجتنا لتغيير مسارنا أو الحاجة لرؤية الأشياء من منظور مختلف. وإذا جرحت مشاعرنا، وخذلا شخص ما مقرب لنا في الحياة فقد تكون الرسالة وقتها : “أحب هؤلاء الأشخاص في حياتك دون أن تنتظر منهم شيئاً، وتقبلهم على حالهم، ولتأخذ منهم فقط ما يريدون إعطاءك إياه دون اعتراض أو طلب المزيد”.

وقد تكون الرسالة البديلة : “لا تدع تصرفات الآخرين تؤثر على تقديرك لذاتك”.

إذا احترق منزلك أو سرق أحدهم سيارتك فسوف تشعر بأحاسيس مزعجة. فهذا أمر طبيعي ويشعر به البشر كافة. وإذا اخترت أن تتعلم من الموقف فستعرف جيداً أنه يمكنك أن تحيا في سعادة دون هذه الأشياء التي كنت مرتبطاً بها للغاية ؛ فمثل هذه التجارب العاطفية يمكن أن تعيد ترتيب أولوياتك في الحياة. ولا أعني بذلك أنه يجب أن نعيش بلا منازل أو بلا سيارات. ولكن ما أريد قوله هو أن الأشخاص الناجحين هم الذين يتعلمون من مثل هذه التجارب، ويعيدون ترتيب أنفسهم ليتماشى ذلك مع الوضع الجديد، وبذلك تصبح الشدائد أقل ألماً.

تعقيب شخصي ؛ أندرو ماثيوز هو من أبرز الكتاب في التنمية البشرية برأيي، آراؤه مختصرة وواضحة، وطريقته في الكتابة لطيفة ومثيرة للضحك .. ولهذا أنا أنصح دائماً بكتبه لمن يبحث عن كتب في التنمية البشرية