إلى أي حد يجب على الدولة حماية مقدسات الشعب ؟ وهل يجب على الدولة حماية المقدسات بداية ونهاية أم لا ؟ كانت هذه الأسئلة وغيرها التي تحدد علاقة الدولة بالشعب ومقدساته محل نقاشٍ طويل بين عدد من المثقفين وبعض الأصدقاء .. وأنا هنا أقوم بتسجيل إجابتي الشخصية التي أعتقد بها في الوقت الحالي !
ولنبدأ من قبل البداية ؛ من حيث السؤال عن هدف وفكرة الدولة. يقول المفكر الفرنسي جان جاك روسو في كتابه “العقد الاجتماعي” بأن الناس في زمن ما كانوا يعيشون أحرارًا وبكامل إرادتهم الشخصية، وبدون أي اعتبار لرغبات الناس الآخرين، مما سبب شيئًا من الظلم والاستضعاف لكل من لا يقدر على حماية ممتلكاته، أو حتى حماية نفسه. فيرى بذلك بأن استحداث مفهوم الدولة قام أولًا وأخيرًا لحماية الشعب من بعضه البعض، ومن غيرهم أيضًا، لحماية ممتلكاتهم ولحمايتهم هم أنفسهم. ويضيف بأن الناس اختارت قيام الدولة، اختارت أن تتنازل عن شيء من حريتها الشخصية التي تحتمها مخالطة الآخرين في سبيل تحقيق العدل والحماية.
وبذلك يقول المفكر العربي مالك بن نبي : “الحكومة مهما كانت ما هي إلا آلة اجتماعية”*، فهي آلة تقوم على حماية الشعب ككل، وتحقيق مصالحهم الشخصية في إطار مصلحة الكل. إذًا فالدولة عبارة عن آلة اجتماعية، طورتها المعرفة والتجربة البشرية، في محاولة لحفظ كامل الحقوق للمواطنين.
انطلاقًا من نقطة أخرى، سأجدني أتساءل ؛ هل يمكن فعليًا الإساءة إلى المقدسات ؟ هل يمكن لأي أحد الاساءة إلى الذات الإلهية مثلًا ؟ أعتقد بأن هذا مستحيل فعليًا، فإذا كان المؤمن يعتقد بالعظمة اللامتناهية لمقدسه، فكيف يمكن لكلمات أو أفعال محدودة أن تؤثر على هذا اللامتناهي المطلق ؟ أقصد بأن المقدسات لا يمكن المساس بها أصلًا كما يقتضي التقديس، وغضبنا لها ليس إلا غضب لأنفسنا متلبسًا في زي الدين. “المقدس أكبر من أن يُساء إليه”، هذه قناعة يجب أن يؤمن بها كل مؤمن، وهي أساس من تعظيمهم للمقدس.
نحن نشعر بالإهانة فعليًا عند كل أمر لا نستطيع إثباته، كل أمر فيه قفزة إيمانية يُغيّب فيها العقل، والإثبات المنطقي الكامل. لو أنني نعت “بيل غيتس” مثلًا بأنه فقير، فلن تتلقى كلمتي سوى السخرية، وأرصدته وأملاكه كفيلة بتكذيبي والاستهزاء بادعائي. بينما إذا ما نعت أحدهم في شأن لا يستطيع إثباته -لعدم القدرة على القياس عادة- فسيشعر هنا بالإهانة، كأن تنعت أحدهم بالغباء أو عدم القدرة. وهذا فعليًا هو ما يُشعر الناس بالإهانة، كل ما لا يمكن إثباته بالتجربة، أو ما لم يثبته “المختبر” أو “المعمل” كما يُقال، ولا يمكن إثباته بتسلسل منطقي بسيط يتقبله الجميع. وأعتقد بأنه هنا يأتي دور الإيمان، الإيمان الذي يخبرك بأنه لا يمكن الجور على معتقداتك، وبأن هذه المعتقدات والآراء صحيحة بشكل قاطع. ولهذا فأنا أعتقد بأن التفاعلات السلبية مع أي كلمة جارحة أو سيئة تجاه معتقداتنا تدل بشكل أول وأخير بأن هذا الإيمان الذي ندعيه لا يخرج عن كونه مجرد كلمات نتشدق بها ونتفاخر بها على الأمم.
ليس على الدولة أن تحمي مقدسات شعبها من رأي أو كلمة مخالفة، وحتى لو كانت غير موضوعية أو سلبية، إنما عليها أن تتيح الجو لكل الآراء، مما يجعل من الآراء الدينية المطروحة أشد تماسكًا وأقبل للتصديق والإيمان بها. أعتقد بأن واجب الدولة تجاه شعبها الذي يشعر بالإهانة عند المس بمقدساته أن تهيء لكل الآراء كافة السبل والمساعدات في سبيل النضج. فالفكرة لن تنضج بشكل كامل مالم تشعر بالتهديد، عندما تخاف بأن تغلبها فكرة أخرى من حيث المتانة والمنطق. ولهذا يجب على الدولة أن تكفل حق التعبير لكل فكرة ورأي، أعتقد بأن هذه هي الخدمة الوحيدة التي تقدمها الدولة لشعبها ومقدساته.
أما مسايرة الشعوب في طلباتها وغضبها العاطفي تجاه كل المسيئين لا يزيد الأمور إلا خبالًا، ويهيء لأولئك المتكلمين بعاطفة دون عقل مكانة ومنصبًا لا أراهم يستحقونه، وأعتقد بأنه يضرهم ويضر معتقداتهم، ويجر الشعوب إلى مزيد من الدمار لا أكثر. حتى يتحول مقدسهم في النهاية إلى مجرد ثقافة تتناقلها الأجيال، دون الوعي بها، وبرفض تام لأي نقاش فيها أو حتى تصويبها عند الخطأ. وسيدخل في دائرة التقديس ما ليس منها، مما يمنح لأولئك الدخلاء سلطة متطلقة وبيئة أكبر للإفساد والاستبداد.
(*) مقولة مالك بن نبي كاملة : “الحكومة مهما كانت ما هي إلا آلة اجتماعية، تتغير تبعًا للوسط الذي تعيش فيه وتتنوع معه. فإذا كان الوسط نظيفًا حرًا، فما تستطيع الحكومة أن توجهه بما ليس فيه”. (كتاب شروط النهضة)