بداخل كل واحد منا حزنه الذي يعيش، لكل إنسان فينا معاناة فِراق ترسم للقاءاته ضحكتها، لكل واحد منا دموعه وبكاؤه اللذان يشعرانه بلحظاته الجميلة، من باب إثبات الشيء بالضد لنسبية الضدان لبعضهما وعدم قابليتهما للقياس. وبالعموم ؛ تبدو تلك الأرض الحزينة مألوفة للجميع، بشارعها المظلم المكتس بالسواد، وبكل من يسير على جوانبه بشيء من ثقل الحركة، يعتاد الكل هناك على تلك النظرة الباردة خالية الروح التي يرمقها به غيره، والتي قد يبادلهم بها أحياناً بطبيعة الحال، تلك النظرة التي لا تفهم منها إلا اللامبالاة بغير الحزن الذي تضمره، والذي يستصرخ ألماً راجياً نهاية معاناته !
ومع تكرار أيامنا علينا، ومع تواتر لحظاتها وتتابعها ؛ تحتل بعض مواقفنا فينا معانٍ خاصة تميزها عن غيرها، فتسرق منا تفكيرنا وتجبرنا على شرود أذهاننا متجولين في تفاصيلها الصغيرة، نتخيل للمستقبل صوراً لم تكن، ونؤمن بشيء من السذاجة أحياناً ببعضها التي نعرف بأنها لن تأتي، لكننا وعلى الرغم من ذلك نداوم على ارتيادها وعلى الحديث عن نهاياتها وكأننا نعشق ذاك النوع من الابتسامات التي تتركه فينا.
لا يخلو أي إنسان من حزنٍ يعيشه، وأكاد أجزم بأننا نستمد من شعورنا بذلك إحساسنا بإنسانيتنا، وبأن الإنسان بلا حزن لا يكون إلا مجرد ذكرىً لا تضمر حياة ولا ترجو في حياتها إنجازاً.
ووسط كل تلك الصراعات والصرخات الداخلية تبرز حاجتنا الدائمة لمن يستمع لما يسكننا من ألم، فتغدو لأوقاتنا معهم دفؤها الذي يذيب ثلوج دموعنا، لتمسح عن أعيننا جمودها المعتاد، وعن أوجهنا تلك الأتربة التي صبغتها المشقة. وعلى قدر أحزاننا تكون حاجتنا إلى من نشاطرهم أوقاتنا، فنركن إليهم لما فيهم من طيبة قلبٍ وأذن صاغية، ينفسون بذلك عن أرواحنا شيئاً من حملها، إلا أننا نجد أنفسنا أحياناً مجبرين على الاحتفاظ بشيء لأنفسنا من تلك الأحزان، لخوفٍ يراودنا من تغير من نحب عما اعتدنا عنهم، بأن ندخل على قلوبهم حزن لا يطيقونه أحياناً، أو أن ننتقص من صورتنا في أذهانهم أحياناً أخرى. وشخصياً ؛ أعتقد بأن لأقربهم إلى القلب ميزته التي تجعله قادراً على قراءة تلك الأحزان التي نخبئها عنهم، وإن لم يستطع قراءتها تجده يبحث عنها بشيء من الإلحاح والخوف، فيرسم ببحثه ابتسامة دافئة تمتزج بشيء من الضجر أحياناً، أو بالاستسلام أحياناً أخرى.
الأكيد بالنسبة إليّ على الأقل ؛ هو أن فقداننا لهؤلاء الأشخاص يترك فينا جرحاً يكون اندماله شبه مستحيل، فتغدو أيامنا في بعدهم صعبة قاسية، نراهم يتجسدون الأحزان ويتلخصون معانيها، وتداعبنا ذكرياتهم في كل مكان اعتدنا لقاءهم فيه، وتمتلئ أحلامنا بخيالاتهم، حتى أنهم يصيرونها كوابيساً أحياناً بكلماتهم القاسية، فتوقظنا دموعنا لتردنا إلى عالمنا باكين، بدموع ألم بدلاً عن تلك الدافئة التي كانوا يلونوننا بها، ويملؤون ذكرياتنا آلاماً يذكرنا بها كل حولنا، فنمني أنفسنا أحياناً بأن تلك الأيام لم تكن، أو بأنها كانت كل العمر أحياناً أخرى، ونظل في صراع داخلي ؛ يرجونا بأن ننفجر على من اختار ابتعاده عنا تارة، وتجده يصبرنا بتفاصيل اللقاء القريب تارة أخرى، راجياً بأن يكون ذلك قبل أن نطلبه منهم.
كلمة أخيرة ؛ بادلوا أصدقاءكم كل ما تكِنّون من مودة ومحبة، ولا تيأسوا من عودة أحدهم وإن أخبركم برحيله. لا تتأخروا في إخبار أحدهم بما يعنيه لكم، فلن تأتي تلك اللحظة المثالية لذلك إن أطلتم انتظارها، فاصنعوا لحظاتكم المثالية بأنفسكم، وأخبروهم بما تشعرون تجاههم، وأبقوهم على اطلاع دائم بتصاعد محبتكم لهم، أخبرهم عن تلك القصص التي يحكيها لكم ما حولكم عنكم، وعن خيالاتهم التي تدعبكم لتخلق لكم تلك الحظات الجميلة، وبأنهم جعلوكم تبتسمون في نومكم إذا ما زاروكم في أحلامكم. أخبروهم بما تروي لكم قلوبكم الصافية، فهذا ما يجعل للصداقة ديمومتها. فصدقوني إن قلت لكم بأنه لا تغني الأفعال عن هذه الأقوال، كما لا تغني الأخيرة عن الأولى. وصدقوني إن أخبرتكم بأنه لا أجمل من لقاءاتٍ تتبع لحظة الفراق، وبأنه لا أبرد على القلب من عفوٍ عن أوقات صعبة جعلها أحدهم من نصيبنا !!