يوماً ما

قياسي

 

” قد لا أكون مجرد شاب عادي, من يدري ؛ قد أصنع الكثير من المستقبل الذي ننشد .. بأحد الأيام ربما “

سار  سارحاً بفكره على قارعة الطريق, شارد الذهن يفكر في خفايا مستقبله, وانحرف في نهاية ذاك الشارع الكئيب عن طريقه إلى مطعم مظلم متجهاً إلى طاولة لا يكاد يصلها الضوء, واتكأ عليها بطريقة تبدو غريبة بعض الشيء, متنقلاً ببصره بين الأوجه من حوله, في محاولة لتفرّس ما تخفيه تلك الأوجه من آراءٍ عنه ؛ ” هل يعتقدون بما أعتقده عن نفسي ؟ أيرونني عظيماً في مستقبلي ؟ أو بأحد الأيام , ربما “.

هل حدثت نفسك يوماً باحتمالية كون الطفل الواقف هناك عظيماً يوماً ما ؟

هل حدثت نفسك يوماً باحتمالية رؤيتك لذاك الطفل الذي رأيته يتسلق لتوه أرفف متجرٍ هناك قاصداً إحدى سلعه المعروضة مغيّراً للواقع الذي نرجوا تغييره ؟

هل حدثت نفسك يوماً باحتمالية كون الطفل الذي اعتدت رؤيته بشكل مستمر قائداً أو مرجعاً في أحد مجالات الحياة ؟

بعقليته الطفولية ؛ كان يستاء ممن يلقي التحية على من حوله ويتجاهله لمجرد كونه صغير سن غير مهم, أو ممن يعرض عن مساعدته في أمرٍ ما لمجرد أنه طفل صغير ليس إلا, أو من أولئك الذين يرفضون تصديقه في أحاديثه لمجرد كونه صغيراً لا يعي ما حوله في اعتقادهم !

كان يغضب من كل من تبدو على تصرفاته استصغاراً لصغار السن, كان دائماً ما يردد بشيء من الحنق والطفولية : ” يوماً ما لن تتجاهلونني, يوماً ما ستفتخرون بتلك اللحظات التي جمعتنا معاً, يوماً ما “.

كان يسرح بخياله وهو يقرأ سير الأعلام, ويتخيل نفسه بينهم ومنهم يوماً ما, حالماً بأناس يتدارسون صفحات تحكي عنه هو. حتى أن أحدهم حاججه يوماً فسأله متهكماً : ” أأنت أعظم أم ذاك العالم العلم ؟”, فأجابه بشيء من الاعتزاز أو الغرور : “لا تدري ؛ قد أكون أنا .. يوماً ما”.

شخصياً ؛ أنزعج بشدة من تلك النظرة التي نغطي بها صغار السن, وأعتقد بأنه من الواجب علينا أن نؤمن بمن يصغرنا سناً وأن نؤمن بإمكانياتهم, وأن نساعدهم ما استطعنا ليصلوا إلى غايتهم التي اختاروها.

لنجلس إليهم نستمع إلى أحاديثهم واهتماماتهم, لندع لهم أيدينا نجري ورائهم إلى أحلامهم البسيطة, لنشعرهم بشيء من الاهتمام بهم ولنترجم بعضاً من آرائهم على أرض الواقع إعلاناً منا بإيماننا بهم .. فلربما يكون أحد العظماء لنا شاكر بالمستقبل القريب, من يدري ؟!

أبطال وأساطير

قياسي

قصة عالمية شهيرة ؛ تروي أحداثاً غربلت حال المواطنين هناك في بريطانيا العظمى, حدثت كلها بعد أن ترك حاكم البلاد لأراضيه لحاجة أو أخرى مستخلفاً في البلاد أحدهم تبين في الفصول المتقدمة للرواية دناءته وعدم جدارته بتلك المسؤولية.

كان الظلم والطغيان أسلوبا حكم الأخير, نشر ظلماته في أزقة المدينة, ووسم سكانها بالخوف واليأس, وقتل منهم إحساسهم بالكرامة والأمان ؛ فقراء مشردين وأرامل مقطوعين وغيرهم الكثير ممن يحتاج لأن يقف على أحدهم لفترة, باختصار شديد .. كان هذا حال الجميع عدا المتشبثين بالبلاط الفاخر.

فصل جديد في الرواية ابتدأ معه الأمل؛ استطاع فيها أهل الأرض كتابة الكلمة القوية بين أسطر القصة, وظهر بينهم من يتصدى للظلم والظالمين هناك, ظهر بينهم أسطورة الحركة الشعبية .. ظهر روبن هود !

تنتهي القصة بعودة الملك الأول للأرض التي يحكمها, وبإعادته للمجرى الإنساني في القصة, أعاد الابتسامة لكل روح فيها, وسكب في طرقات الأرض خيراً يجري فيها ..وتذكر الرواية بأن اسم الحاكم كان : ريتشارد قلب الأسد.

قد لا يصدقني البعض إن أخبرتكم بأن السبب الرئيسي لارتصاص صفحات الرواية كان الهزيمة النكراء لأحد الحملات الصليبية التي قادها ملكهم, وبالتحديد في معركة حطين الشهيرة. وفي الحقيقة ؛ هذا ما يخبرنا به قلم الكاتب الأول للقصة.

لن أتحدث أبداً عن دهاء الكاتب بتمجيده حاكمه بطريقة مبتكرة, في وقت أتوقع بأن الأخير كان في أمس الحاجة لمثل تلك الكلمات, لن أتحدث كثيراً فأكبر ما يدور في خيالي بعد هذه القصة هو سؤال عن حالنا مع الروايات والقصص, وعن أبطالنا الحقيقيين أو الخياليين وأدوارهم الخفية في تنشئة أطفالنا, ولماذا اختفى في عالمنا أبطالاً حتى ولو خياليين ؟

لا تلوموا أطفالنا يوماً لجهلهم بتاريخنا وأعلامه, فلا أحسبنا الأكثر تشويقاً في عرض التاريخ !

لا تلوموهم إن لم تشتعل بدواخلهم أفكار حسبناها فيهم, لأننا لم ندعم تلك الأفكار بأسلوب احترافي رائع !

لا تلوموهم قبل أن ننظر إلى حالنا في تبسيط التواريخ وحقائقه للعامة. كم أرجو بأن أجلس يوماً أقرأ رواية أو أشاهد فيلماً حققا رواجاً عالميا, يحكيان للعالم عن أساطيرنا وأعلامنا ولو كانت خيالية. وكم أتمنى بأن يكون ذلك قبل ضياع الوقت من أيدينا ؛ قبل سيطرة بعض الأفكار الغبية بأساطيرها الورقية السخيفة على الساحة الفنية العالمية, والأهم من ذلك .. على فكر وثقافة جيل جديد ..!

مقالة قديمة كتبتها بتاريخ 03 ذو القعدة 1432هـ

مشاهدٌ خمسة

قياسي
  • المشهد الأول : جميلةٌ هي تلك الثورات الشعبية، التي يحركها حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كم تبدو جميلة وهي غاضبة من كل المسيئين إليه وإلى سنته وتاريخه .. جداً جميلة !
  • المشهد الثاني : دمعة ألمٍ وحزنٍ ذرفها طفلٌ هناك على عائلته التي فقدها لتوه جراء ذاك القصف الشيطاني الذي استهدف مدينته العريقة صغيرة الحجم، دمعة ألمٍ وحزنٍ لم تجد يداً تلتقطها، ولم تلمح يداً تمسحها أو تعيد لروحها شيئاً من الأمل !
  • المشهد الثالث : نظر بشفقة وحزن إلى أبنائه وملابسهم الرثة، كم يعتصر قلبه وهو ينظر إلى جاره وإلى أبنائه وسعادتهم بهداياهم الجديدة، كم يتألم لتلك النظرات التي يغمرهم بها أبناؤه متحسرين على واقعهم المرير، مُمَنّين أنفسهم بشيء من تلك الماديات ونعيمها .. صعبٌ جداً وقوف العاجزين أمام أحبابهم وأمانيهم !
  • المشهد الرابع : لوهلة شعر بالخوف يخبط أرجاء جسده بعنف، لحظة ضرب السجان فيها الباب بعنفٍ لأول مرة. كم شعر بالكثير من الحنق والغضب تجاه مجتمعه الذي تركه بينما سعى هو لأن يرسم لهم مستقبلاً أجمل من واقعهم التعيس الذي يعيشون، لقد قتلوا فيه حماسته بتجاهلهم غير المبرر له وتخليهم عنه، سلبوا منه جُلّ معاني حياته وهو يتخيل أبناءه يسألون الغرباء لقمات يعيشون بها يوماً آخر .. حتى يخرج إليهم سليماً !
  • المشهد الخامس والأخير : جلس على كرسيّه الخشبي متكئاً عليه، ناظراً من نافذته الواسعة المطلة على مدينته مترامية الأطراف تلك، تفكر قليلاً في حالها وحال شعبها، فتمتم ساخطاً بتلقائية “منافقون”، زفر بضيق وراح يتفكر فيهم وهم يملؤون الدنيا أغانٍ في حب رسولهم الكريم واتباع دينه وقيمه، ثم هم – كما يراهم – أبعد ما يكونون عن تلك المعاني في أيامهم وتعاملاتهم. ابتسم ؛ لأنه يراهم يحاربون العلمانية علانية بينما هم يعيشونها في نفوسهم بشيء من الحماقة أو الخبث. لا يراهم مؤمنين حقاً بكل ما يتكلمون به، فلا تراهم يترجمونها على أرض الواقع، وكأن قناعاتهم كله ليست إلا مجرد صورة تتجرد من روحها .. اتكأ على عكازته قائماً، متمتماً ساخطاً بعباراتٍ غير مفهومة !

آلام وكراهيات

قياسي

كان قارئاً نهماً بشكل جنوني, لم أصدق عيناً تراه يتنقل بين صفحات الكتب ملتهماً حروف أسطرها بسرعة, كجائعٍ فُجع بكثير غذاء.

كدت أصف بالكذب أذنان تسمعانه يتكلم بتبحر واطلاع شديدين يثيران الإعجاب.

حاورته لفترة, تفكرت قليلاً .. نثرت إعجابي في الهواء لتتلاعب به نسماته, بعدما اصطدمت بحقيقة كون اطلاعه الكبير منحصراً في التقسيمات والتشعبات والتفاصيل بدلاً من فهم الفكرة الأساس لما يتحدث به ..!

شخصياً ؛ أشعر بألم شديد عند اصطدامي بأحد العارفين عن غيره أكثر من معرفته بنفسه وبأفكاره, أو من يبتدئ اطلاعه ببعض الفروع والأقسام قبل استيعابه للفكرة الرئيسة.

أتألم عندما أرى الغالبية غير متقبلة للاختلافات, ناظرةً إليها وكأنها شيطان يحرق كل ما حولنا, بدلاً من أن تكون رحمة نتراشقها بيننا. زارعين بذلك شعوراً بالكراهية نرمي به الحياة ومن يحياها.

أرى غالبيتنا متيقظين لرمي أي مغرد خارج السرب بأنواع التهم والتعميمات القاتلة, وقتلنا فينا وبأنفسنا ملامح الفكرة الأم التي اتجمعنا بسببها, ولم نرَ الدنيا سوى قوالبٍ فكرية نرمي كل إنسان منا في قالبٍ على الأقل.

لم نراها بالعموم أكثر من قوالبٍ فكرية تنتظر امتلاءها بالأسماء والعقول ..!

أعتقد بأننا يجب أن نخفي تشعباتنا لفترة في صدورنا, حتى يظهر للفكرة الأم جمالها ورونقها أو أياً من الملامح الأخرى, حتى نرى حقيقة الأفكار التي نؤمن بها بدلاً من اكتفائنا بالتقاط الفتات من هنا وهناك.

لنفهم حقيقة كون الاختلاف ليس ذوباناً في غيرنا أبدأ, هو مجرد تجمع في مساحة تجمعنا سوياً باختلاف أشكالنا.