تشويه وتغيير .. أو تبرير سخيف

قياسي

كان نابغاً في أكثر من مجال.

أقسم البعض بأنه من أذكى البشر إن لم يكن أذكاهم, لا يمكن ملامتهم حقيقة ؛ فقد غيّر الكثير من المفاهيم والآراء التي سادت عصره, كما أضاف الكثير للعلوم الإنسانية, ووضع أساساً إلى علومٍ إنسانية أخرى وجعل لمن بعده طريقاً يتنافسون في اكتشافه بذهول. حتى أن بعضهم جعل منه تغييراً لمسيرة العلم البشري ..!

ما كان الحسين بن سينا بمجرد طبيبٍ كما يتصوره البعض, بل كان أكثر من ذلك بكثير, فقد كانت له الكثير من الإضافات على العلوم التطبيقية ؛ كالرياضيات والفلك والأحياء وغيرها, كما كتب في الأخلاق, وفي التخطيط والتدبير, وفي الفلسفة والمنطق, وفي اللغة والشعر.

ولكن ؛ من بدّل ابن سينا في عقولنا ؟! ومن قَصَر من أدواره وجعلها على الطب فقط ؟!

وليس الحسين بن سينا بجديد أو وحيد على هذا التبديل والتشويه, هو أسلوب اعتدنا تكراره معنا في قراءتنا لشخصياتنا التاريخية, في جعلنا من غيرنا أناساً مغايرين لما هم عليه, شخصيات جديدة نحن نصيغها ونحتار ما فيها من صفات, ونفتخر بعد ذلك بناتجنا الجديد على العالم !

يقول عباس محمود العقاد : “إنك إذا صورت إنساناً ورفعت صورته مكاناً علياً لم تكن عليه, فقد أضفت إليه جمالاً غير جماله, وغيرت من ملامحه النفسية بحيث تخفى على من يعرفها“.

أستطيع القول بأن كل ما تعانيه شخصياتنا التاريخية من تشويه وتغيير أو تبرير سخيف لبعض أفعالها أحياناً ليس إلا ناتج مترتب على انتقادنا السخيف لشخص الأشخاص, بدلاً عن اقتصارنا على محاكمتنا للفكرة في محكمة الأفكار.

كل هذا اضطرنا نهاية إلى تغييرنا من قدواتنا التاريخية وإلى تصويرها بشكل ملائكيٍّ لا يقبل الخطأ, متجاهلين بذلك حقيقتهم البشرية المتنقلة بين الخطأ والصواب باستمرار ؛ فجعلنا نكذب بشأن بعضهم, ونتجاهل من بعضاً من حقائق بعضهم الآخر.

قد تخطئ أفعال إنسان ما, ولكن هذا لا يعني بالضرورة تغيير ذاك الإنسان والكذب بشأنه, بل يعني ضرورة توضيحنا لفكرتنا التي نرى بصوابها, دون تعرضنا لذات الشخص بتغيير أو تبديل !

أنا أحب الحسين بن سينا, أحبه لإنسانيته, ولهمه الكبير ولعمله الدؤوب على توضيح الكثير من الخفايا العلمية, أحبه وأحب سعيه وجهده الكبيران للرفع من مستوى العلم البشري ببحثه عن الكثير من الأجوبة, وأحبه لحبه الكبير للفضيلة وللخير. وكل هذا لا يعني أبداً موافقتي لكل أفكاره واعتقاداته, فلم يكن أكثر من إنسان يصيب ويخطئ .. بشكل دائم ومستمر في حياته !!

عالم من الأفكار

قياسي

أعشق عالم الأفكار

عالم تخلو سماؤه من بعض الأعلام المرفرفة, لا ترتفع في أسماء على أخرى, عالم فرشت أرضه بالحرية .. يسبح فيها أيٌ كيف شاء.

 

كل إنسان يحق له الدخول لهذا العالم, لا ينتظرك عند بوابته حارس أو غليظ أو شيء من هذا القبيل. في الحقيقة .. ليس له أسوار تحيطه أو أبواب تنظم الدخول إليه, كل شخص يدخل من أي جهة تناسبه.

 

أعشق هذا العالم .. فلا أصنام فيه, كل الأفكار قابلة للنقاش, تعجبني فيه ثقة بعض الأفكار بصلاحيتها, للدرجة التي تجعلها تناديك لتبدأ نقاشها.

 

قليل هو الإطلاق في هذا العالم, معدودة هي الحقائق المطلقة, نادرة هي الأفكار الخاطئة .. قليل لكن موجود, كلنا نؤمن بذلك.

 

الكل يسعى إلى الوصول للحقيقة, كل إنسان يلتمس لنفسه طريقاً يراه الأنسب لذلك, والبعض يبتكر طريقاً بنفسه. العجيب في ذلك أن كل الطرق تصل للهدف المنشود, لكن لم يصل أحد حتى الآن, وكأن نهاياتها وهمية أو شيئاً من هذا القبيل, كلما تقدمت في طريق أبصرت المزيد أمامك, لكن بشكل عام .. الكل يواصل مسيره.

لهذا يعتبر البعض بأن كل الطرق صحيحة .. طالما أنك لازلت تمشي في أحدها.

 

يضحكني البعض عندما ينادي بأنه قد وجد الهدف المنشود (الحقيقة), صدقني .. لا يصل إنسان إلى هناك, وأحد أهم الحقائق تقضي بأن قد زاغ من ادعى الوصول.

وفي الوقت ذاته .. يفقد حياته من توقف عن البحث, يقتل بنفسه كل المعاني في التي تحيط به. ومن الصعب جداً أن تعيد إحياءها.

 

في عالم الأفكار .. الفكرة لا تموت, لا تؤثر فيها أيٌ من أسلحة الدمار البشرية, الفكرة لاتنهزم إلا بفكرة أقوى منها تعارضها.

 

مقالة قديمة كتبتها بتاريخ 23 شعبان 1432هـ

خذ حذرك بشكل دائم

قياسي

 

لم يصدق وصوله لتلك اللحظة المرتقبة, اللحظة التي أعلنت نهاية فترة عمله لليوم, فجمع أوراقه بسرعة من مكتبه واضعاً إياها في حقيبته اليدوية بعشوائية, بدا واضحاً عليه استعجاله الشديد ورغبته الملحة لبلوغه منزله, حتى أنه لم يلتقط تلكما القلمان اللذان سقطا عن مكتبه, وتركهما يتابعان انصرافه ونظرته الأخيرة على مكتبه, وإغلاقه للباب من خلفه معلناً بذلك تركه لكل ما يتعلق بعمله خلف ذلك الباب, وبات شعور الوصول إلى منزله هو رغبته الوحيدة لذاك الوقت, فلم يشغل ذهنه بغير ارتماءته في حضن زوجته التي يحب, وتلك الضحكة البريئة التي تستقبله بها ابنته كل يوم فور دخوله للمنزل الدافئ.

ارتسمت على ثغره ابتسامة عكستها تخيلاته للحظة اللقاء ودخوله للمنزل, وظل يفكر في أكثر من كيفية يتم بها استقباله, وبأكثر من طريقة يدخل بها للمنزل يرسم بها الابتسامة.

توقف بسيارته لفترة عند إشارة مرورية, منتظراً إياها لتسمح له بتجازوها, وسرح هو بتفكيره في عالمه الجميل. أخرجه منه صوت دوّى بالمكان لصرير سيارة أصرت على التوقف قبل ذاك الاصطدام القوي بسيارة أخرى, التي حاول سائقها ترويضها والسيطرة على الموقف .. وانتهى كل شيء, وتوقفت الحياة, فقد اصطدمت إحدى السيارات بسيارة الأول معلنة النهاية ببساطة ..! *

لن أتكلم كثيراً عن انتظار صغيرته غير المنتهي, أو عدم تقبلها واستيعابها لحقيقة رحيل والدها الذي اعتاد على مداعبتها كلما رآها. لن أصف الكثير من تلك اللحظة التي سقط فيها الهاتف من يد زوجته فور تلقيها الخبر المفجع, أو انهيارها على ركبتيها وحزنها الذي ملأ دنياها سواداً. أو عن بكاء أمه وجزعها بطريقة لم يعهدها عليها إنسان .. وسأكتفي بإخبراكم بأننا في بلادنا العربية نملك أكبر معدل وفاة في الحوادث المرورية على مستوى العالم ككل, بمعدل 49 وفاة لكل 100 ألف من السكان, والرقم في تزايد مستمر وللأسف !!

أنا أؤمن شخصياً بأن تقدم الأمم وتأخرها مقرون بشكل كبير باحترامها للإنسان وبتقديرها لحياته, وأرى لذلك بأن حوادث السير من المعضلات التي تتوجب التحرك لحلها بأي وسيلة كانت, حتى ولو كانت تعني استغناءنا عن استخدام السيارات مثلاً أو استبدالنا لها بأي وسيلة مواصلات أخرى.

بوفاتك سأفقد عقلي , فأرجوك .. خذ حذرك بشكل دائم

هي كلمات قالتها لي أمي مرة, بعدما خرجت سليماً من أحد الحوادث الشنيعة, ولا أخفيكم تأثير هذه الكلمات في نفسي, حتى يخيل إليّ أوقات بأنني صرت أخاف ركوب السيارات. لا أخفيكم بأن هذه الكلمات كتبت في نفسي بألا أستهن بعواطف من أحب وإن هانت عليّ حياتي, وألا أستخفف بأرواح من حولي عندما أقود سيارتي في شوارع المدينة.

– – –

* القصة حقيقية الحدوث على أرض الواقع !

أداة وحيدة للتعلم

قياسي

كان المنظر مهيباً بالفعل في ذلك اليوم, منظر الشاب الذي يتأمل تلك الأرض الخربة بحزنٍ شديد, لم يصدق بأنه عرفها يوماً كمدينة تجارية كبرى, ولم يقوى ذاك الشاب الياباني على مداراة دموعه أو على حبسها, فانهالت على وجنتيه وسقط على ركبتيه يبكي أرضَه التي تراجعت مئات السنين, بفعلِ قنبلتين نوويتين !

كثيراً ما تتردد هذه القصة على مسامعنا, وكيف كان الشباب يحملون أنفسهم على قراءة الكتب حتى يطوروا من بلادهم مستقبلاً.

وأنزعج شخصياً كثيراً من سطحية البعض في جعلهم أولى خطوات النهضة في صفحات الكتب, لأنني أراهم ضيقوا واسعاً ببساطتهم تلك ؛ فلم أعرف قراءة الكتب على أنها هدفاً يوماً, بل أراها وسيلة لما هو أكبر من ذلك, ولا يصح حصر القراءة كوسيلة وحيدة لتلك الغاية النبيلة.

لم يقم شباب اليابان وقتها بالقراءة لأجل القراءة فقط, بل كانت قراءة لأجل التعلم الذي سينعكس بعد ذلك على أرضهم ليصنعوا عمراناً نراه اليوم هناك !

بطبيعة الحال ؛ يختلف كل إنسان عن الآخر في طريقته المناسبة لتلقيه المعلومة, فليست القراءة مناسبة للجميع, ولهذا لا أحب حصرها كأداة وحيدة للتعلم, ولهذا لا أحب نظرة بعض القارئين إلى بقية وسائل المعرفة بشيء من الاستخفاف !

صحيح بأنني أحب القراءة من الكتب, وأهوى التنقل بين صفحات الكتاب, وملامسة الكلمات بأصبعي عند قراءتها, إلا أن هذا لا يعني ضرورة عمومِ هذه المشاعر بين الناس.

لا أرانا نعاني من نقص المحتوى بالكتب العربية فقط, بل نفتقر وبشكل أكبر إلى تنوع وسائل التعلم في عالمنا العربي, فتغيب عن أيامنا تعددية وسائل التعلم ؛ كالكتب الصوتية مثلاً ..!

خلاصة ما أقول هي أن العلمَ وتعلمِه ليسا حكراً على فئة من الناس, أو على أصحاب نمطٍ حياتيٍّ معين, فلنحاول نشرهما بكل وسيلة ممكنة يستطيع إنسان ما الاستفادة منها.

وقبل النهاية أحببت أن أسأل ؛ ما فائدة علمٍ لا ينعكس أثره على أرض الواقع ؟!

لوحة رحمة

قياسي

دائماً ما كان الضيق يخالجه في مشيته بالطريق, دائماً ما كان يتضايق من تلك المدنية التي انتشرت بطريقتها التي لا تبقي على شيء ليعترضها, دائماً ما كان يتضايق منها ويراها سرقته نشوة حريته, بقتلها لجمال الحياة ورونقها من حوله

لا تلوموه .. فقد منعت تلك البنيان نسمات الهواء التي اعتاد على مداعبتها لوجهه, ولم تجد تلك الحياة الطبيعية التي اعتاد عليها مكاناً بين تلك البنايات المنتشرة, بل واختفت تلك الكائنات الحية التي تزين المكان, واختبأت من ذلك العمران في إحدى الزوايا المظلمة.

صحيح بأننا كتبنا لأنفسنا حياةً أفضل وأسهل بمدنيتنا, إلا أننا قتلنا الحياة من حولنا كما أرى !

أنا أكتب هنا لأنني أتألم لمنظر قطٍ تشرد فاختبأ بين قمائم مدينتنا, لأنني أتألم لمنظر قطٍ جائعٍ ينادي رحمة كل إنسان يصادفه في طريقه, لأني أتألم لمنظر هريرة تتحسس أمها بغير استيعاب بأن سيارةً دهستها وكتبت نهاية عمرها .. وأتألم حين ألاحظ التكرار اليومي لمثل هذه المواقف وأبشع ..!

 أنا أكتب هذه الكلمات لأنني أعتقد بأن الإنسان مسؤول عن هذه الأرض, عن تطويرها وعن تكييف بقية الكائنات مع ذلك التطوير.

أنا أكتب اليوم علّ كلماتي تلامس أحدهم, ليدشن على الواقع فكرة من إبداعه, يرسم بها بعض الرحمة في شوارعنا, ويكتب نهاية لهذه الفوضى التي نعيش, لتكتسب أيامنا لوناً أكثر رفقاً وإنسانية.

قصة رمزية [ شروط النهضة : مالك بن نبي ]

قياسي

لقد حانت الساعة التي ينساب فيها شعاع الفجر الشاحب بين نجوم الشرق

وكل من سيستيقظ بدأ يتحرك وينتفض في خدر النوم وملابسه الرثة

ستشرق شمس المثالية على كفاحك الذي استأنفته هناك في السهل, حيث المدينة التي نامت منذ أمس ما زالت مخدرة

ستحمل إشعاعات الصباح الجديد ظل جهدك المبارك, في السهل الذي تبذر فيه .. بعيدا عن خطواتك

وسيحمل النسيم الذي يمر الآن البذور التي تنثرها بداك .. بعيدا عن ظلك

ابذر أخي الزارع. من أجل أن تذهب بذورك بعيدا عن حقلك, في الخطوط التي تتناءى عنك .. في عمق المستقبل

هاهي بعض الأصوات تهتف ؛ الأصوات التي أيقظتها خطواتك في المدينة, وأنت منقلب إلى كفاحك الصباحي . وهؤلاء الذين استيقظوا بدورهم , سيلتئم شملهم معك بعد حين

غنّ أخي الزارع ! لكي تهتدي بصوتك هذه الخطوات التي جاءت في عتمة الفجر, نحو الخط الذي يأتي من بعيد

وليدوّ غناؤك البهيج, كما دوّى من قبل غناء الأنبياء في فجر آخر, في الساعات التي ولدت فيها الحضارات

وليملأ غناؤك أسماع الدنيا , أعنف وأقوى من هذه الجوقات الصاخبة التي قامت هنالك

هاهم أولاء ينصبون الآن على باب المدينة التي تستيقظ , السوق وملاهيه , لكي يميلوا هؤلاء الذين جاؤوا على إثرك , ويلهوهم عن ندائك

وهاهم ألاء قد أقاموا المسارح والمنابر للمهرجين والبهلوانات , لكي تغطي الضجة على نبرات صوتك

وهاهم أولاء قد أشعلوا المصابيح الكاذبة لكي يحجبوا ضوء النهار , ولكي يطمسوا بالظلام شبحك في السهل الذي أنت ذاهب إليه

وهاهم أولاء قد جملوا الأصنام ليلحقوا الهوان بالفكرة

ولكن شمس المثالية ستتابع سيرها دون تراجع , وستعلن قريبا انتصار الفكرة وانهيار الأصنام , كما حدث يوم تحطم هُبَل في الكعبة