الخير والشر

قياسي

الخير والشر .. يتم استخدام هاتين الكلمتين عادة لتوضيح ما يسمى بالثنائيات، لأنها تبدو بسيطة ومفهومة لدى الجميع. فكرة الثنائيات تعبر عن أي صفتين متضادتين تمامًا، وعادة ما يتم استخدام هذا الترتيب للقيم وللمبادئ لتقديمها بشكل مبسط للعامة، فالأفكار البسيطة تنتشر بشكل أسرع غالبًا.

الخطأ الأبرز في عقلية التضاد تكمن في تعميم الثنائيات على ما لا يقبل الثنائية، فيتم بذلك ربط قيمتين بعلاقة مغلوطة في النهاية، ينتج عن ذلك الكثير من الأفعال الخاطئة. وكمثال من الواقع المعاصر ؛ يربط الكثير بين دينٍ معين ليكون ضد الكفر، ويجعل بعد ذلك الإنسانية مرتبطة بالعبادة على ذلك الدين، مما يجعله بالضرورة يستحل كثيرٍ من التجاوزات على غيره، ويبرر لضميره بذلك اعتداءاته وسرقاته للمختلفين معه في هذه القيمة. شخصيًا أعتقد بأن الكفر ضده الإيمان، أما الأديان فهي بحر من الاختيارات للوصول للإله. خطأ آخر يقع فيه الكثير هو جعل الاستبداد والديموقراطية متضادتين، مما يجعله مُطالبًا لتطبيق النظام الديموقراطي باستمرار، متهمًا كل من لا يدعمه في مطالبه بالتخاذل والتشريع للاستبداد. بينما أرى الاستبداد ضده المشاركة بين الشعب والدولة، أما الديموقراطية فهي اجتهاد إنساني وأحد أنظمة الحكم التي قد تبدو الأكثر نضوجًا حتى الآن.

تبسيط الأمور بهذه الطريقة منتشر كثيرًا في العالم، وليس حصرًا على المجتمع العربي كما يروج البعض. على سبيل المثال ؛ قامت الولايات الأمريكية المتحدة بالتسويق لنفسها وكأنها الجيش الخيّر، بينما الإرهاب هو الشر المطلق على الأرض، والذي سيقوم الخير بدوره بمحاربته والحد من انتشاره. بهذه الفكرة البسيطة التي تم تقديمها للجماهير، ألبس الشعب الأمريكي الجماهير العربية روحًا شريرة، فكرههوهم وكرهوا كل شيء عربي، وهذا ما يفسر العداءات وعدم قبول الكثير منهم لأي شيء عربي .. ففي قرارات أنفسهم، العربي جسم تتلبسه روح شريرة.

عندما أشاهد تطور القصص في الرسوم الكرتونية اليابانية، نجد أنهم في فترة ما كانوا يسوقون للخير والشر، وكأن أحد الشخصيات خيّر والآخر شرير، بينما انقلبت القصص حاليًا ليجعلوا وكأن الخير والشر ليست روحًا تتلبس الإنسان، فليس الخيّر ذو طبع لطيف ولا تتشكل فيه كل الصفات الحميدة، وليس الطرف الآخر شريرًا بالمطلق. يتم تقديم الشخصيات الكرتونية اليابانية المعاصرة وكأن الخير والشر يحددهما انتماؤنا إلى طرف دون آخر، وكأن الشخصيات كلها تبني حكمها على فهمها للموقف، الكل يظن بأن خيّر، وبأن كل من يعيقه ويتربص له شرير، ونحن بمتابعتنا للقصة نختار طرفًا في المعركة، ونقرر بشر الأطراف الباقية.

التزام بالكتابة

قياسي

المشهد ( I ) :

لقاء أول، بعد فراق طويل صنعته الحروب، فراق دام لخمس سنوات. لقاءٌ امتلأ بالكلمات، وكل الذكريات التي تسارعت أمام أعينهم وعلى ألسنتهم، لقاءٌ تشبع بالنظرات الدافئة اختزنوها لهذا اليوم. ومن بين الكتب التي امتلأت بها مكتبته الكبيرة، أخرج لها كتابًا منها، أخبرها بأنها تحمل بين يديها الجزء الأول من سلسلة كتب خطها بيده، سلسلة من عشر كتب فيها كل ذكرى وكل خاطرة عنها. في صفحة عشوائية فتحتها وجدت وردة أعطته إياها ذات مرة، وخاطرة كتبها هو عنها، في صفحة أخرى عشوائية وجدت خاطرة أخرى له، ورسالة كانت قد كتبتها له ذات مرة.

المشهد ( II ) :

في لحظة غضب جنونية، صرخ في جمع من تلك البطاقات الجاهزة المبتذلة. فقد كان يعتقد بأن هذه الكلمات التي يكتبها غيرنا على ألسنتنا تصنع بيننا وبين أنفسنا سورًا يومًا بعد يوم، تقتل من دواخلنا شيء متصل بكل ذرة روح فينا، “لماذا لا يكتب كل إنسان ما يريد ؟ لماذا لا يعبر أي إنسان منا بأسلوبه وبشخصيته وبقلمه الخاص ؟” صرخ منهارًا، وتذكر صديقًا قال له يومًآ : “الطريقة المثلى لتجاوز امرأة هي تحويلها إلى أدب”.

المشهد ( III ) :

قال لي الأول بأنه يكتب بشكل يومي كل ما يمر به في يومه، بأنه يخصص ساعة في نهاية اليوم يكتب فيها لمذكرته، قال لي بأنه مستمر على التزامه هذا لأربع سنوات حتى الآن، وبأنه يحتفظ بمذكراته هذه على مكتبته الشخصية، وفي مكان محبب إلى نفسه.

قال لي الآخر بأنه التزم منذ فترة بكتابة كل ذكرى جميلة، التزامه مع الذكريات الجميلة دون غيرها. بأنه يكتب كل لحظة جميلة جمعته بصديق، أو أنجز فيها أمرًا ما، ملتزم مع كل كلمة جميلة وابتسامة صادقة.


أعطتني أمي قبل أيام كتابًا يعود إلى القرن الثاني الهجري، فرحت به بشدة بادئ الأمر، حتى اللحظة التي تصفحته فيها ووجدته مقتصرًا على بعض الصلوات الروحانية الصوفية. لا أخفيكم بأنني تمنيت لو أنه امتلأ باللحظات اليومية البسيطة لذاك الزمن بدلًا من هذه الكلمات التي لا أؤمن بها، تمنيت لو أنني عرفت به طريقتهم في معايشة الحياة، همومهم وأشغالهم والذكريات الجميلة لأناس لم أسمع بأسمائهم منهم يومًا، أو صفحات أخرى عن إنسان يحكي لي الناس عن عظمته، ويحكي لي هو في هذه الصفحات عن أيامه اليومية البسيطة.

أعرف بأنني دائمًا ما نصحت بالتخفف من هذه الحياة والتزاماتها الكثيرة التي تسارع من وتيرة أيامها، ولا تترك منا لنا أي شيء، إلا أنني فعليًا سأدعو لالتزام وحيد حتى الآن، وهو الكتابة اليومية. أعتقد بأن الكتابة اليومية لم تتغلغل فينا بشكل إيجابي إلى الآن، ولا حتى بأي شكل حتى !

سأدعوك لأن تكتب، بأي طريقة تجدها تناسبك في الكتابة، اكتب ما يناسبك أنت، حتى لو اقتباسات جميلة عن غيرك كبداية، لكن توقف عن جعل الآخرين يتكلمون على لسانك.

اكتب عن نفسك، وعن عواطفك وخواطرة. فلن تجد بأي يوم لحنًا أو أدبًا يوافق قصتك التي عشتها

اكتب .. فهذا فعليًا ما يجعلك أقرب لنفسك. اجعل لنفسك ركنًا خاصًا من مكتبتك الخاصة، ركن كتبته بنفسك، ركنًا تعيش كل تفاصيله بنفسك.

اكتب للتاريخ، فهذا التاريخ الوحيد الذي لا يمكن لأي مؤرخ أن يعبث به، أو أن يكتبه حتى بطريقته الخاصة التي تهضم كثيرًا من التفاصيل المهمة.


( I ) : من فيلم The Great Gatsby المأخوذ من رواية عالمية شهيرة بنفس الاسم.

  • ( II ) : من فيلم 500 Days of Summer.
  • ( III ) : الصديق أبان باهبري، ثم الصديق خالد الجابري.

عادل زعيتر

قياسي

سأكتب اليوم عن السيد عادل زعيتر، شيخ المترجمين العرب كما يسميه البعض.

ولد السيد عادل زعيتر بمدينة نابلس الفلسطينية بالسنة ١٨٩٥ الميلادية، وتوفي بالمدينة ذاتها بعام ١٩٥٧. وقد ترجم في حياته ٣٧ كتابًا إلى العربية، من عدة لغات، فقد كان يجيد العربية كما يجيد التركية والفرنسية والإنجليزية والألمانية.

من المميزات التي أعجبتني في ترجمات عادل زعيتر، فضلًا عن نوعية الكتب وقيمتها، هي جودة ترجمته وفصاحتها. رغم أن الكتب التي ترجمها تعتبر من الكتب الصعبة أو الثقيلة، والتي قد يصعب فهمها بلغتها الأصلي، إلا أنه يبذل المستحيل حتى يجعل الكتابة سهلة وميسرة للجميع، وكثيرًا ما يستخدم الهوامش للتواصل مع القارئ أو لإيضاح فكرة معينة، أو ارتباط الفكرة بواقع الكاتب.

في أول صفحات الكتاب وقبل بداية النص، يقوم المترجم بكتابة سيرة ذاتية عن الكاتب الأصلي، والإشارة إلى أبرز الملامح التاريخية لعصر ظهور الكتاب، والأفكار التي يتضمنها الكتاب. مما يسهل عليك -كقارئ- فهم الكتاب، وفهم فكرته الأساسية ودوافعه. وشخصيًا وجدتها جدًا مفيدة، وأتمنى لو يتم تطبيق هذه الآلية على كثير من الترجمات.

فعليًا ؛ أنصح بألا تُقرأ الكتب التي ترجمها عادل زعيتر من غيره، أما بالنسبة لهذه الكتب فهي ..

١. العقد الاجتماعي (مبادئ الحقوق الأساسية) : جان جاك روسو.

٢. أصل التفاوت بين الناس : جان جاك روسو

٣.أميل (التربية) : جان جاك روسو.

٤. حضارة العرب : غوستاف لوبون.

٥. روح الثورات (الثورة الفرنسية) : غوستاف لوبون.

٦. روح الجماعات : غوستاف لوبون.

٧. السنن النفسية لتطور الأمم : غوستاف لوبون.

٨. روح التربية : غوستاف لوبون.

٩. روح السياسة : غوستاف لوبون.

١٠. فلسفة التاريخ : غوستاف لوبون.

١١. اليهود في تاريخ الحضارات : غوستاف لوبون.

١٢. حياة الحقائق : غوستاف لوبون.

١٣. الآراء والمعتقدات : غوستاف لوبون.

١٤. حضارات الهند : غوستاف لوبون.

١٥، روح الاشتراكية : غوستاف لوبون.

١٦. الحياة والحب : إميل لودفيغ.

١٧. البحر المتوسط : إميل لودفيغ.

١٨. كليوباترا : إميل لودفيغ.

١٩. بسمارك : إميل لودفيغ.

٢٠. النيل: حياة نهر : إميل لودفيغ.

٢١. نابليون : إميل لودفيغ.

٢٢. ابن الإنسان : إميل لودفيغ.

٢٣. ابن رشد والرشديّة : إرنست رينان.

٢٤. كنديد (التفاؤل) : ڤولتير.

٢٥. الرسائل الفلسفية : ڤولتير.

٢٦. حديقة أبيقور : أناتول فرانس.

٢٧. الآلهة عطاش : أناتول فرانس.

٢٨. روح الشرائع : مونتيسكيو.

٢٩. تِلِماك : فرانسوا فنلون.

٣٠. مجالي الإسلام : حيدر بامّات.

٣١. حياة محمد : إميل درمنغم.

٣٢. تاريخ العرب العام : لوي أميلي سيديو.

٣٣. ابن خلدون وفلسفته الاجتماعية : غاستون بوتول.

٣٤. أصول الفقه الدستوري : إيسمين

٣٥. الغزالي : البارون كرادوفو.

٣٦. ابن سينا : البارون كرادوفو.

٣٧. مفكرو الإسلام ١-٢ : البارون كرادوفو.

الفطرة

قياسي

 

كثيرًا ما تتردد على مسامعنا كلمة “الفطرة”، وهو ما يعني الأخلاق والخصال التي نُجبل عليها بداية وبادئ الأمر. كثيرًا ما تتردد هذه الكلمة على مسامعنا وكأنها أمرًا مقدسًا يجب أن يكون عليه كل الناس، وكأن خلق البشري كان بداية على الصورة الأقوم له، ولكن الدنيا ومشاغلها وهمومها شكلته على الشر بعد ذلك يومًا بعد يوم.

شخصيًا ؛ أعتقد بأن الفطرة البشرية تحتمل الخير والشر على حد سواء، فعلى سبيل المثال ؛ الصدق قد يعتبره البعض من الفطرة السليمة، بينما تبدو لي النجاة هي الفطرة وليس الصدق، لهذا يميل كثير من المربيين إلى تسويق الصدق وكأنه منجاة أو هكذا كلمات. يعتقد البعض بأن الصدق يقربهم من أنفسهم إلا أنني أعتقد بأن التراكم التاريخي لهم، وأثر المجتمع عليهم هو ما جعلهم يعتقدون بأنه كذلك. كمثال آخر ؛ دعونا نتكلم عن الأنانية مثلًا، والتي يعتبرها العالم بدوره أحد الخصال السيئة، بينما هي حقيقة من طبيعة البشر. دائمًا ما كنت ألاحظ الأطفال وأتابع تصرفاتهم، وأجد أن الأنانية من طباعهم مالم يتم تربيتهم على غيرها، كل البشر يميلون إلى الاستمتاع بالملذات التي حولهم، أو على الاستحواذ على النصيب الأكبر من الغنيمة.

التربية بدورها تبدو لي وكأنها محاولة إخراج البشري من الطبيعة التي بدأ عليها، إلى الخصال التي تضمن له مواكبة مجتمعه وعدم الإضرار بمن حوله. التربية تعني بخلق نسق بين الطفل البشري بخصاله البدائية، وبين المجتمع البشري الذي تم تكوينه بتراكم تاريخي معين. قد تتربى على الانهزامية في مجتمع منهزم، وتصبح في عينيك انهزاميتك حكمة، وقد تتربى على التهور في مجتمع آخر يعلمك بأن تهورك هذا شجاعة تُحمد عليها.

بهكذا تعريف تبدو لي الفضيلة والرذيلة كأنها صنيعة للتراكمات التاريخية البشرية، والتي لا أنكر بأن الدين قد يكون أحد مشكليها، ولكني أعول ذلك إلى التاريخ البشري. وبهكذا تعريف لا أستلزم بأن صفات البشري الأولية كانت هي الصحيحة، وإلا لما احتجنا إلى التربية، لكني قد أقول بأنها مزيج بين الخير والشر، يتم تحديدهما بناء على تجربة الإنسان وتاريخ المجتمعات.