لا تلتزم

قياسي
كتب هذه المقالة الصديق خالد الجابري @kbaljabri 
“هل تستحق حياتك كل هذا؟ تخيل أنك تحمل شنطة على ظهرك. ثم تبدا في حشوها بالأمور التي تملأ حياتك، ابدأ بأشياءك المادية، هاتفك، كمبيوترك، كتبك، أموالك، ملابسك. ستشعر أن أربطة الشنطة تشدد من على كتفك. رغم ذلك، استمر في أضافة بعض أشياءك الكبيرة كذلك، ادخل سريرك في الشنطة، ثم سيارتك، ثم غرفتك. و لأن حياتك تملؤها العلاقات أيضا، فاملأ الشنطة بكافة أنواع علاقاتك، بداية من زملاء العمل، إلى الأصدقاء الأعزاء، ثم أهلك و أحبابك. و لا تنسى أن تملأ الشنطة كذلك بأمانيك و أحلامك و رغباتك، بالإضافة إلى عاداتك و سلوكياتك و ذكرياتك” هكذا يبدأ ريان بينقهام – اسم الشخصية التي يمثلها جورج كلوني في أحد أفلامه – إحدى خطبه، ثم يكمل فيقول: “الحياة لا تنتظر أحدا، إذا كنت ستضع على كاهلك كل هذه الأمور التي وضعتها في الشنطة فستفوتك الحياة، فكلما كنت أبطأ في التحرك كلما أسرعت في قتل نفسك”
ما يريد إيصاله جورج كلوني من خلال فلمه، و ما أريد إيصاله في هذه المقالة هو أمر واحد: أن كل تفاصيل الحياة، رغم جمالها، إلا أنها قد تتحول إلى مفترس ينهش لحظات أيامك. فبإلتزامك تجاه كل هذه الأمور، و بحملك الدائم لكل ما ضعته داخل الشنطة، فستقصم ظهرك من غير أي قشة إضافية، لأنك كلفت نفسك ما ليس بوسعهها. فجل هذه الأمور -إن لم يكن كلها – هو مما أنت قادر على التخلي عنه، و الانفكاك من التعلق به.
ندعي في حياتنا أننا نملك كثير من الأمور، و لكن عندما ننظر إلى حقيقة علاقتنا معها، نكتشف أنها هي التي تملكنا. فبدل أن تتحول أشيائي الخاصة إلى أمور تخدمني في حياتي، أصبح أنا خادما لها ! و بدل أن تكون ثقافتي و أفكاري هي الدافع وراء اكتشاف معنى خاص بي في الحياة، تصبح هي ما تضيق علي التفسح في معاني الحياة المتنوعة ! و بدل أن تكون العلاقات إحدى وسائل التمتع في الحياة، تصبح هي الهم الأكبر في تذوق جمالها !
الحياة مليئة بالمتغيرات، و في كل يوم نتفاجئ بالمتغيرات التي تدفعنا إما للتأقلم معها بشكل سريع أو الموت ببطء، فمن لا يتجدد يتبدد ! و لم يعد المنجزون هم فقط من يستمرون في العمل رغم الظروف، بل أصبحوا من يتأقلم مع المتغيرات و مع الظروف. هذا التأقلم السريع يحتاج إلى ذات خفيفة لا تحمل أعباءا كثيرة عليها، و لا تتوقف عن التقدم المرن رغم كل ما يحاول أن يثبتها في مكانها.
أول الخطوات قبل التقدم هي أن تصفي ذاتك/قلبك و تخليه من الارتباطات. تخيل الآن، أن بينك و بين تلك الشنطة حبلا يبدأ أوله فيك و آخره في الشنطة، و تخيل أن بين كل غرض داخل تلك الشنطة حبال صغيرة، تخيل في هذه اللحظة أنك تقطع الحبل الكبير بحركة واحدة، ثم تبدأ بروية و هدوء في قطع كل باقي الحبال تباعا. لن تشعر فقط بالراحة من الحمل الذي كان على ظهرك، و لكنك  ستشعر كذلك بأنه لا شي يجرك للخلف بعد الآن.
تكسير الجبال الشامخة بالرأس ليس الحل الأنسب كي تصل للجهة المقابلة، و لكن الالتفاف على الجبل الضخم هو إحدى هذه الحلول، و لن يمكنك الالتفاف إلا بتأقلم سريع مع الصعاب التي تواجهها. و إحدى الحلول المبدعة الأخرى، هي بأن تتسلق الجبل و تصل للقمة، ثم تستطلع بنظرة أوسع لكافي الصعاب الأخرى التي قد تواجهك، و لن يمكن الوصول للقمة بلا إنهاك إلا بالتخلي عن الشنطة و ما فيها.
خالد الجابري ٢١ نوفمبر ٢٠١٢

فكرة “مما تحبون” عند د.جاسم سلطان

قياسي

في أحد لقاءاتنا مع الدكتور جاسم سلطان صاحب مشروع النهضة، وفي ظل الحوار مترامي الأطراف، سأله أحدنا : “كيف وجدت نفسك ؟ وكيف وجدت مشروع النهضة الذي يلائمك ؟”. فعليًا هذا ما نجده على الدكتور جاسم سلطان، فانغماسه بمشروع النهضة يقر لك بأنه وجد البيئة التي تناسبه، وابتسامته العميقة التي تلازمه تخبرك بذلك وتؤكده.
كان جواب د.جاسم بأنه إيجاد المشروع الذي يلائمه كلفه خمسًا وعشرين عامًا من البحث عنه، وحكى لنا عن عدد من تجاربه غير الناجحة، والتي ساعدته نهاية باختيار تلك التجربة التي نجحت، والتي أطلق عليها اسم “مشروع النهضة”.
كان من هذه التجارب قصته مع بعض الجماعات الإسلامية، وكان بعضهم يفرض على متبعيه طريقة معينة للحياة، نوع من الوصاية التي يدفعها الحب والفكرة. وبطبيعة الحال، فلم تناسب تلك الطريقة التي وضعها قواد الجماعة كل مرتاديها، فاختلاف الناس لا يقتصر على شخصياتهم وطبائعهم، بل يشمل حتى رؤاهم وطرق تفكيرهم واختيارهم، وحتى طرق وصولهم لله سبحانه.
أخبرنا يومها بأنه {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران:١٢]، وأخبرنا بأنه هو شخصيًا لم يناسبه اعتزال الناس مثلًا ولم يناسبه التصومع وقضاء الأيام في الذكر والعبادة المجردة بشكل متواصل، وبأنه يجد نفسه لله أقرب في مجال الفكر وفي التحليل والكتابة والتأليف، فذلك أكثر ما يحب هو شخصيًا.
صعب جدًا ويكاد يصل للمستحيل أن يجد لك غيرك مجالك الذي تحب، أو أن تجد ذاتك في أول تجاربك في البحث عنها.


تعليق : عدم موافقة أحدهم لطريقك، أو عدم موافقتك لطريقة غيرك في الوصول لله سبحانه، لا يعني أبدًا خطأ طريقةٍ وصواب أخرى، كلها طرق لله تعالى، وكل إنسان معني بطريقه، هو وإيمانه فقط.


د.جاسم سلطان : @DrJassimSultan
الوسم الخاص (هاشتاق) بمشروع النهضة : #نهضة
عبدالرحمن إدريس (صاحب السؤال الأول) : @edrees_

أنفس تحمل السر

قياسي

قبل فترة من الزمن، انتشر كتاب “السر” لروندا بايرن بطريقة ڤيروسية في أنحاء العالم، وحقق أرباحًا عالية جعلت مؤلفته تطرح المفهوم ذاته بأشكال مختلفة، سواءً أكان ذلك بصياغة كتاب السر ككتاب صوتي أو فيديو وثائقي، أو كان بطرح مؤلفات جديدة تعني بهذا المفهوم متمثلة في كتابيها التاليين “القوة” و”السحر”. كل الكتب الثلاثة وانعكاساتها تهتم أولًا وأخيرًا بما يسمى بـ(قانون الجذب)، القائل بأن العالم سيلبي لنا كل احتياجاتنا ورغباتنا شريطة إيماننا بها حد الثمالة.
شخصيًا ؛ أنا لا أعتقد بقانون الجذب على هذه الطريقة التي نشرتها السيدة روندا بايرن، أنا أؤمن بأن عالمنا المحايد يتشبع بكل الفرص والمنح، وكل ما علينا هو رؤيتها واقتناصها فقط، وهذا هو ما يفعله إيماننا الشديد بفكرة ما وتدويرها في أذهاننا على الدوام، يساعدنا على رؤيتها باختصار.
فهو ليس بقانون جذب أصلًا، وتسميته بهذه التسمية خاطئة وتمنحه ماهية ليست له، ففرصنا منتشرة من حولنا بالفعل، ونحن لا نجذبها إلينا، نحن فقط نشعر بها. الموضوع كله يبدو مشابهًا لقصيدة “فلسفة الحياة” للشاعر إيليا أبوماضي، والتي ينهيها بقوله : “كل جميلًا ترى الوجود جميلًا”.
باختصار ؛ أرضنا محايدة لا تنجذب إلى أحد، تمنح فرصها علانية للجميع، تقتنص بعضها ويمر ببعضها أناس لا يعيروها اهتمامًا فتنتهي بدورها .. هذا كل ما في الموضوع.
هل جريتم زيارة بلد ما، امتلأت رؤوسكم بفكرة ما عن أهاليها، لتكتشفوا بالتجربة أن أهاليها مخالفين تمامًا للتصور الذي كان عنهم ؟ أعتقد بأن الذي يعامل الناس باعتقاد لصوصيتهم سينتهي به الحال مسروقًا، والذي يعاملهم باعتقاد ميلهم للرذيلة سيجعله ذلك ملاحظًا لكل ما يدعم قوله .. “كن جميلًا ترى الوجود جميلًا”.
أحيانًا نقرأ كتابًا آملين جوابًا لأحد أسئلتنا، ونجد جوابًا قد يكون خلاف مراد الكاتب، وقد ينال على رضانا ذاك الكاتب والكتاب فقط لأننا وجدنا إجابته مقنعة، وقد يكون نصيبه السخط إن لم نجد جوابنا، حتى وإن كان ذاك الكتاب لا يعني بسؤالنا أصلًا .. هذا ما تفعله انتماءتنا الشديدة لأفكارنا برأيي، والتي قد تنتهي تعديًا على رأي كاتب أو تشويهًا لآخر. وهذا ما تفعله بنا قراءة أفكار الآخرين بمنظور أفكارنا.
“كن جميلًا ترى الوجود جميلًا” ..!

خاطرة مبعثرة (٠٣) – حزين الطريق الحجري

قياسي

لا تخلو هذه المدينة من الأحزان .. تتشربها .. تعيشها في كل تفاصيلها. يخيّل إلي أحيانًا بأن أناسها لا يعترفون بيوم بلا حزن وألم، معتقدين بأن ذلك يصنع أيامهم، رغم مرارة المذاق.
كنت غريبًا عن تلك المدينة، حديث عهد بالأحزان. كنت معتادًا قبلها على ارتماءاتي في أحضان أمي، كلما شاغلني شاغل أو أهمني هم ما، وكانت هي تستقبليني بكل دفء، وحنية. تطمئنني بتربيتاتها على كتفي، تخبئني بين ذراعيها، وتهمس في أذني بأقترب أكثر من قلبي. كان انشغالها عني وسط خوفي مطمئنًا، وابتسامتها تحكي الكثير، وتخبرني عن الأمل، وكل ما يحتاجه واقفٌ على قدميه.
ولكل شيء نهايته ؛ فلم أكن لأنسى اليوم الذي أقلقها فيه ما أقلقني، بحثت عن ابتسامتها أحاكيها، فلا أنا سمعت منها كلمة، ولا أبصرت بسمتها .. وكان علي تقبل الأمر، رغم الخوف الذي اعتصرني، فهذه همومي تكبر بشكل مرعب.
خفت أن أكون كسرت لها ابتسامتها بكل أنانية، فنهضت متحاملًا آلامي، مثخنًا بالمخاوف، متصنعًا سلامتي مما رماني بادئ الأمر، ابتسمت أولى ابتساماتي الكاذبة، وهربت متصنعًا مرحًا في هروبي !
جربت الهروب إلى الورق، جربت كتابة كل الألم. فكرت بأن أترك مُرة أوراقي للزمن، يسرقها ويجفف معانيها. فكرت بأن أرميها في طريق أحدهم، يكون جاهلًا بي وبما هو عني، وأنا أستشف على ثغره لا مبالاته وابتسامته الباردة. حاولت تجاهل ذلك، مصبرًا نفسي بأنني أنشئ مدرسة جديدة في البوح، فلم أفلح، ولم أؤمن بتلك المدرسة .. فلم تناسبني البتة. وكانت أحزاني تصرخ في رأسي بعشوائية وغوغائية، راجية مني كتابة كلماتها، فلم أكتب ما يفهم، وكان تزاحمها يخنقني أكثر فأكثر.
جربت البكاء للبحر، الصراخ لأصم الحجر، والبوح لأعمق الحفر .. فلم أعرف محادثة من لا يحادثني.
جربت تصنع القوة، وكذب الابتسامات، فعرفت بأني كنت أكدس أحزاني فوق بعضها، ولا أترك لها حرية للتعبير .. وكان ذلك يقتلني ببطء، ويسرق ابتسامتي.
نصحني أحدهم بأن أعمد إلى قاعدة “فرق تسد”، وأخبرني بأنه من المجدي تفكيك الأحزان إلى أمور غير مهمة. فلم أعد أحفل بتلك الأمور، وترفعت عنها، وظلت تنهشني كما كانت تفعل مجتمعة.
نصحني آخر بمعايشة تلك الأحزان كما تريد هي، بأن أمشي في طريقها الذي اختارته لي، وأتركها تأكلني وتأكل أيامي .. فلم أطق ذلك.
نصحني غيره كثير وسمعت أقوالهم، واختلفت آراؤهم فتشاحنوا فيما بينهم، وصار صراعهم إثبات لأنفسهم، وبقيت أنا مع أحزاني، أبكي نفسي، وتبكيني أيامي.
قرأت مرة كتابًا لـ”واسيني الأعرج”، افتتحه بكلمات قال فيها : “إن الكتابة ليست مجرد أحاسيس هاربة مرتبطة باللحظة، ولمنها رؤية وحرقة تلتصق بالجسد إلى الأبد، وتحمله أحيانًا إلى ما طاقة له به”. خرجت وقتها ومشيت على طريق حجري طويل، تخبرك المياه بين أحجاره عن قرب عهده بالسماء. مشيت بحزن تنعيني شمسه الغائبة، بشيء من الدموع والقصص. ترتكز على جنباته أرفف ودكاكين، حياني عجوز يكنس باب أحدها، فلم يجد ردًا، ظن بأنني تجاهلته، إلا أنني كنت غارقًا لحظتها في ابتسامة صديق على قارعة الطريق، يخبرني بها بأنه يتفهم ملامحي المتصلبة، يحكي بها عن صمته تقديسًا لحزني أيامًا، ويقول لي بأن أرمي على أقدامه أحزاني، وبأن أنم للحظة هانئًا.


هي رسالة شكر لأقرب الأصدقاء إلى نفسي. واعتراف بسبب كتماني بعض الأسرار عمن أحب.

أواخر أيام أحمد أمين [ماذا علمتني الحياة ؛ جلال أمين]

قياسي

 

لازلت أتذكر أبي، بوضوح تام، وهو جالس، منذ ما يقرب من ستين عامًا، في جلبابه الأبيض في مكانه المعتاد على الكنبة الكبيرة وسط الصالة، وعلى يمينه مائدة وضع عليها عدد كبير من زجاجات الأدوية المختلفة الأشكال والألوان، حيث كان يعتمد في التمييز بين دواء وآخر على اختلاف أحجام الزجاجات، بعد أن أصبح من الصعب جدًا عليه، من فرط ضعف بصره، أن يقرأ اسم الدواء المكتوب على الزجاجة. كان يحاول أن يكتب شيكًا لمستأجر الأرض الزراعية التي يملكها، بيد مرتعشة، فعندما فرغ بصعوبة من كتابة الاسم والمبلغ، وجاء وقت التوقيع، وجد صعوبة بالغة في أن يكتب اسمه هو بالطريقة التي تعودها والتي يمكن أن يقبلها البنك، فلما اضطر إلى تمزيق الشيك وكتابة غيره، وواجه نفس الصعوبة فوجئنا بانفجاره بالبكاء، إذ وجد أنه لم يعد قادرًا على القيام بهذا العمل البسيط جدًا، والمهم جدًا مع ذلك، والذي طالما قام به دون عناء.

كان تدهور صحته ونظره هو بلا شك السبب فيما أصابه من حزن. ولابد أن هذا التدهور هو ما جعله يفقد اهتمامه بأشياء كثيرة مما يهتم بها سائر الناس، ولم تكن تافهة لهذا الحد في نظره في الماضي. كان في سنواته الأخيرة يذهب إلى بعض الحفلات المهمة، في مناسبة رسمية، فلا يرى داعيًا لرابطة العنق، بل وقد يستغني عن حلاقة ذقنه، من فرط لا مبالاته بما يمكن أن يكون عليه منظره، أو ما يمكن أن يكون رأي الناس في ذلك. الأغرب من ذلك لا مبالاته برأي الناس في مقالاته إلى درجة قبوله لأمر لازلت حتى الآن أتعجب أشد العجب من قبوله له. لابد أن هذا كان في أوائل الخمسينات، وكانت مجلة الثقافة لا زالت تصدر ولكنها لم تستمر طويلًا بعد هذا، إذ واجهها من المصاعب المالية ما اضطرها للتوقف. وكان أبي يكتب فيها، في كل أسبوع، مقالًا  قصيرًا جدًا لا يزيد على مائتي كلمة أو ثلاثمائة تحت عنوان «خاطرة». وكان يعبّر عن ضيقه أحيانًا بأنه لا يجد فكرة جديدة يكتب عنها مقالة، وقد حان موعد تسليم المقال.  (…)

لا زلت أشعر ببعض الألم ووخز الضمير حتى الآن، كلما تذكرت منظر أبي وهو جالس في الصالة وحده ليلا، في ضوء خافت، دون أن يبدو مشغولا بشيء على الإطلاق، لا كتابة ولا قراءة، ولا الاستماع إلى راديو، وقد رجعت أنا لتوي من مشاهدة فيلم سينمائي مع بعض الأصدقاء. أحيي أبي فيرد التحية، وأنا متجه بسرعة إلى باب حجرتي وفي نيّتي أن أشرع فورًا في النوم، بينما هو يحاول استبقائي بأي عذر هروبًا من وحدتهو وشوقًا إلى الحديث في أي موضوع. يسألني أين كنت فأجيبه، وعمن كان معي فأخبره، وعن اسم الفيلم فأذكره، كل هذا بإجابات مختصرة أشد الاختصار وهو يأمل في عكس هذا بالضبط. فإذا طلب مني أن أحكي له موضوع الفيلم شعرت بضيق، وكأنه يطلب مني القيام بعمل ثقيل، أو كأن وقتي ثمين جدًا لا يسمح بأن أعطي أبي بضع دقائق.

لا أستطيع حتى الآن أن أفهم هذا التبرم الذي كثيرًا ما يشعر به شاب صغير إزاء أبيه أو أمه، مهما بلغت حاجتهما إليه، بينما يبدي منتهى التسامح وسعة الصدر مع زميل أو صديق له في مثل سنه مهما كانت سخافته وقلة شأنه. هل هو الخوف المستطير من فقدان الحرية والاستقلال، وتصور أي تعليق أو طلب يصدر من أبيه أو أمه وكأنه محاولة للتدخل في شؤونه الخاصة أو تقييد لحريته ؟ لقد لاحظت أحيانًا مثل هذا التبرم من أولادي أنا عندما أكون في موقف مثل موقف أبي الذي وصفته حالا، وإن كنت أحاول أن أتجنب هذا الموقف بقدر الإمكان لما أتذكره من شعوري بالتبرم والتأفف من مطالب أبي. ولكني كنت أقول لنفسي إذا اضطررت إلى ذلك “لا أرغب في أكثر من الاطمئنان على ابني هذا، أو في أن أعبر له عن اهتمامي بأحواله ومشاعره، فلماذا يعتبر هذا السلوك الذي لا باعث له إلا الحب، وكأنه اعتداء على حريته واستقلاله ؟”.


* جلال أمين (كاتب المقالة) – صاحب الصورة أعلى التدوينة

* أحمد أمين (والد الكاتب) – صاحب الصورة نهاية التدوينة