رسالة إلى امرأة مجهولة

قياسي

قال لي أستاذي مرة بأن أحلامنا جزء من خيالنا .. بأن خيالاتنا التي لا تجد متسعًا للحركة على أرض الواقع تبحث عنها وتجدها في مناماتنا ؛ ولهذا يجد بعضنا بها أجوبته، وقد يجد فنانٌ بها لحنه، رسمته، أو حتى على خاتمة روايته.

وأنا بالأمس حلمت بكِ .. كما حلمت بكِ في لياليّ الماضية، وكما زارني طيفكِ بشكل متكرر مؤخرًا.


في أولى زياراتكِ بمنامي، اخترت لكِ الطاولة التي ضمت لقاءنا الأول، نفس الطاولة، القهوة، والموسيقى الهادئة.

كنا هادئين ؛ لم تقاطع صمتنا إلا بعض الكلمات، التمتمات الخافتة، أو الترنيمات الموسيقية. كان لقاءٌ يسوده صمت مريب، لكننا استمتعنا بكل لحظاته، استمتعنا بصمتنا الغريب، مفضلينه على بعض الكلمات السخيفة التي تشوه المعاني .. فتركنا شؤون حوارنا لعينينا.

قالت لي الكثير عيناكِ ؛ في عسليتيك شيء لم يمت، شيء متصل بكل معاني الحياة، بكل إيمانات الأرواح، شيء مات بداخلي من قديم الزمان.

من حينة لأخرى ؛ كنت ترشفين شيئًا من قهوتك، وتتركيني أستقي من عينيك معانيها. أنا رجل ماتت فيه كل إيماناته، وأطلبك لتكوني كل إيماني، ولحياتي معانيها. علميني كيف أكون، علميني، علميني واسقيني، فأنا صغير عنقاء لم تعرف سببًا تنفض لأجله رمادًا وُلدت فيه من جديد .. كوني أنتِ كل أسبابي، اسقيني، شكليني كما تشائين، يكفيني أنا من ذلك استحسانك.

آنستي .. يا خلاصة كل المعاني. ارميني في عينيك غريق، ولا تسمحي لمخلوقٍ بإنقاذي وانتشالي منها، شهادتي في مقلتيك حياة، لا أتمنى نهاية لي غيرها. أنا على الجانب الخاطئ من التاريخ، لاجئ إليك يطلب عاصمتك، ضميني في إمبراطوريتك، في بلاطك، توجيني فارسه الوحيد، يكفيني أنا من هذا أن أكون بين أسوارك. أنا رجل بلا أمنية، بعدما أنكرته كل أمانيه، حتى صرت أنت أمنيتي الوحيدة، فاقبليني، لا تكسريني، لا تكسري كسيرًا لا تصله بالحياة إلا أمنية، مصيرها بين يديك ..!


سماوية ملائكية، حطت بأجنحتها على منطقة محرمة فيّ، دمار وحطام لم يسكنها أحد، فأقامتها، واستولت على كل شبر فيها.

أنستي ؛ يا واقفة على سعادتي القتيلة، كوني لي أنتِ سعادتي.

تمتمتُ عند أسوارك ؛ بأني أحبك، ولم أحبب إلاكي، ولم تجذبني قبلًا  إلا خيالاتك.

أريد أن أخبرك بأني أحبك، لطالما فعلت. وسأعلن ندمي وأعترف، فقد كنت سجانًا لكثير من كلمات العشق والهيام، “أحبك جدًا”.

أريد أن أخبرك بأنني أحبك، أنت فقط. أريدك أن تسمعيها من شفتاي، وتتركيني أرتمي على كتفك وأبكي. أبكي لعجز مفرداتي عن توصيف حبي وما أكنّ لك، أبكي كما يفعل كل فقير لطرق التعبير .. أبكي، فالبكاء أكثر ترتيبًا من كل الكلمات !


على باب مطعم نحب ارتياده، على شاطئ المدينة التي نحب، وعلى الموسيقى واللحن الذي نحب .. وعيناكِ مرة أخرى !

هذه المرة ؛ بدت الأوصاف عاجزة أمام سعادتنا، فهذه عيناي تنضحان حياة مرة أخرى، وعيناكِ تزدانان رونقًا وجمالًا. وتسألين ما أنت أدرى بأجوبته ؛ إذا ما كنت أحبك، وعن أسعد أيام حياتي. فأضيع حائرًا لا أعرف كيف أبدأ إجابتي الركيكة ؛ لا الإيجاب وحده كفيل لأن يجيب سؤالك الأول، ولا أولى لقاءاتنا للأخيرِ عادلٌ أمام سعادتي التي تكبر كل يوم، وتطير !

سيدتي ؛ يا سيدة كل الترانيم والأغاني. يكفيني طربًا تغنيّ بأحرف اسمك اللؤلؤي. يكفيني أني عشقتك، لأكون عازفًا على كل أوتار الحياة، لأكون رمزًا تغني له أساطير الأغنية العريقة.

سيدتي ؛ يا ملاكي الحارس والناعم. وقفت لي على باب حياتي يومًا، فاستوطنتك روحي وأفكاري، ونشدت في حناياكِ سعادتها الأبدية.

سيدتي ؛ يا عطر الحب والحسنات. هاتي يديك، خبئيني، كوني ماهيتي، أحبيني، وليبدأ التاريخ من شفتيك.

سيدتي ؛ يا ميزان الفكر والإلهامات. اجعليني ورقتك البيضاء، أتمايل بين دفتي جنوني وعقلانيتي فيكِ.


أكره أن تتسلل ورائي مشاعر في عودتي من خيالاتي .. إلا أني أيقنت بها أنك أمنيتي الوحيدة، فأحبيني، فالحب يحقق لنا ذواتنا التي أطلنا عنها الغياب، وتهنا عنها.


د.مصطفى الحسن (أستاذي صاحب الافتتاحية) : @alhasanmm

أنا والكتاب (٠٣) ؛ الطريقة

قياسي

يقول الأديب العربي توفيق الحكيم : “الوسيلة الأولى للترغيب في القراءة هي استثارة الفضول الشخصي”*.

شخصيًا ؛ أجد نفسي منسجمًا مع المقولة السابقة وموافقًا لها، وأعتقد بأنني سأقول على غرارها بأن أقوى دوافع المعرفة بالعموم أو القراءة بالخصوص تكمن في البحث عن الأسئلة التي تستثيرنا، وطالما أن بشريتنا تفرض علينا إدراكًا وعلمًا قاصرين، فإن الأسئلة الصحيحة لن تقودنا إلى طريق مغلق، والإجابة الصحيحة ستحتوي عدة أسئلة جديدة كما أتخيل .. وسنبقى لذلك في صراع متواصل وسفر دائم بين الأسئلة والأجوبة.

في طريقك إلى المعرفة، اختر طريقتك التي تناسبك، اختر الطريق الذي يناسبك أنت بعيدًا عن أي من الضغوطات المجتمعية. ابحث عن طريقة تناسب ماهيتك أنت، فأنت المعني بهذه الأسئلة والأجوبة في النهاية.

وفي حديث أعمق قليلًا عن القراءة والكتب، أستطيع تصنيف الكتب إلى صنفين ؛ الروايات والكتب العلمية، وستكون بقية الكتب عبارة عن مزيج بين الاثنين، أو خليط ما ولكل كتاب خلطته المختلفة عن البقية. أعتقد بأن الكتب العلمية هي ما يكون نتاجًا للتجربة وللمختبرات، أفكارها ثابتة غالب الوقت، ويصعب تغييرها أو تبديلها. أما الروايات فهي تجربة بشرية بالكامل، عبارة عن مادة خليقة الخيال، يفشل العقل في محاكمتها غالبًا، فتقوم العاطفة بمحاكمتها على قدر ملامستها لذواتنا ودواخلنا. الرواية نتيجة تجربة إنسانية وفق بيئة معينة، تضيف مع صفحاتها إلى أعمارنا أعمارًا لم يقدر لنا معايشة بيئتها وطريقتها في الحياة. الفارق الأساسي بين الكتب العلمية والروايات كما أعتقد، هو أن الكتب العلمية تنطلق من الكليات إلى التفاصيل، بينما تنعكس الطريقة في الروايات لتبدأ من التفاصيل إلى الصورة المجملة، وأحيانًا تترك لك تشكيل الصورة المجملة وفق خلفيتك العقلية.

لهذا أعتقد بأنه يخطئ تمامًا من يعتقد بأن الروايات كتب لا فائدة منها !! **

اختر طريقتك المثلى في القراءة، طريقتك التي تناسبك أنت. أحد الأصدقاء يستخدم قلمي تحديد (Highlighter) في قراءته، أحدهما لموافقة الكاتب والآخر لمعارضته. صديق آخر يستخدم قلمًا واحدًا يناقش فيه الكاتب على حواشي الصفحات. أحد الأصدقاء يفضل استخدام الخرائط الذهنية في تلخيص الكتب التي قرأها، بينما يستعيض آخر بمقالات تلخيص للكتب .. الطرق كثيرة في الاستفادة من الكتاب، فقط جد طريقك، أسلوبك، وأسئلتك التي تقرأ لأجلها.

نقطة أخيرة ؛ وفق نظرتي للكتاب بأنه أحد الطرق إلى المعرفة، أستطيع القول بأن أهم من قراءة الكتاب هو فهمه، لا تقرأ كتابًا لست مولعًا به، ولن يضيف إلى حياتك شيئًآ. قرأت مرة لعلي عزت بيچوڤيتش مقولة يقول فيها، بأنه أهم من قراءة الكتاب أن تتفكر بمحتواه، وتترك عقلك ليهضمه ويفكك محتوياته، ويذوب فيها. مقولة أخرى لتوفيق الحكيم يقول فيها : “لقد تحقق لي أني لا أصلح بطبعي للتقدم إلى أي امتحان، ذلك أن الامتحان يريد مني عكس ما أريد أنا من القراءة. إني أقرأ لأهضم ما قرأت، أي أحلل مواد قراءتي إلى عناصر تنساب في كياني الواعي، أما الامتحان فيريد مني أن أحتفظ له بهذه المواد صلبة مفروزة”.


(*) اقتباس من رواية (الرباط المقدس) لتوفيق الحكيم.

(**) سأقترح ثلاثة روايات عربية لمن بحث عن فكرة جديدة عن الروايات ؛ الحب في المنفى لبهاء طاهر، عصفور من الشرق لتوفيق الحكيم، وفي سبيل التاج لمصطفى لطفي المنفلوطي. ،هذا طرح لأستاذي الدكتور مصطفى الحسن عن القراءة، أجده مفيد للغاية.

أنا والكتاب (٠٢) ؛ السبب

قياسي

كل لحظة كنت أنظر فيها إلى كتبي، وأنا عنها بعيد، لا أقترب، بلا سبب أعرفه .. لكني كنت أفكر دائمًا عن صدي هذا عنها، على معرفتي بأهميتها !!

في بعض أيام حياتي كانت تتردد على مسامعي بعض الكلمات عن القراءة، وكنت بها أتقوى على كل صفحة أقرؤها. أُولاها كانت من كتاب (أنا) لعباس العقاد في مقولته : “أقرأ لأن حياة واحدة لا تكفيني”، مقولة أخرى كنت أسمعها مرارًا كانت جواب ڤولتير على سائله عمن سيقود البشرية، عندما قال بأنهم أولئك الذين يحسنون القراءة. أو قصة اليابان ونهضتهم بعد الحرب العالمية الثانية وقنبلتي هيروشيما وناغازاكي، وقصة إجبارهم لأبنائهم على القراءة. وطبعًا لا يمكن أن نغفل أكثر العبارات ترددًا وهي أن أمر القراءة كانت أول كلمات القرآن نزولًا.

وللأسف ؛ فالعبارات السابقة وعبارات أخرى غيرها تم تسويقها واستعمالها لتقول بأن هدف القراءة كان للقراءة ذاتها، وأعتقد بأن هذا كان دافعي للقراءة، كما كان السبب في توقفي عنها لخمس سنوات أيضًا. وأعتقد بأن القراءة لم تكن هدفًا لذاتها، لم تكن يومًا كذلك، هي وسيلة إلى هدف آخرٍ أكثر شمولًا، وليست القراءة أيضًا هي الوسيلة الوحيدة إليه، ولا حتى الأفضل، لكنها الأنسب إلى البعض فقط، بما فيهم أنا.

نظرة أكثر شمولية على خطوة اليابان الأولى في طريق نهضتها كفيلة بإخبارك أن القراءة لم تكن وسيلة النهضة الوحيدة، ستخبرك أيضًا عن بعثاتها العلمية في كل المجالات الصناعية والعسكرية وغيرها*. وأعتقد بأن هذا ما عناه مالك بن نبي في مقولته “إن اليابان وقفوا من الغرب وقفة التلميذ، ونحن وقفنا منهم موقف الزبون”.

من جهة أخرى ؛ فڤولتير لم يعمم جوابه على كل القراء، وإنما اقتصر جوابه على الذين يحسنونها. وعباس العقاد لم يكن مهتمًا بكل أشكال الحيوات ليضيفها إلى حياته، كان مهتمًا أكثر بأن يضيف النادر منها، والتي اشتهرت بغرابة طريقتها في التفكير، يقول العقاد : “لا يوجد أي كتاب غير مفيد، فحتى الكتب الغبية تعرف بها كيف يفكر الأغبياء”، وبعيدًا عن تهكمه الصريح في مقولته السابقة، فأرى بأنه أشار وبصراحة إلى السبب الرئيسي.

طريقة التفكير التي تخولك لإيجاد حلول تليق بأي مشكلة تواجهك في حياتك، فلكل مشكلة لها سياقتها وتراكماتها التاريخية التي سببتها، ولا يمكن حل أي مشكلة بما لا يناسب تاريخها. فستحتاج في مواجهتها إلى طريقة تفكير تحلل وتعرف كل المعلومات التي توصلك إلى السبب الرئيس لها، وكيفية مواجهتها. صحيح بأننا قد نضطر أحيانًا إلى اختصار الطريق الذي نخطوه، وأن نسلم بمعلومات أوصلها غيرنا إلينا، ولكن تبقى طريقتنا في التفكير هي الأهم، وهي المقياس للأخذ بمعلومات غيرنا أو رفضها.

كن قريبًا من ذاتك، فريدًا في طريقتك، فلا يتغير التاريخ للنسخ المتكررة، ولتجعل الكتب ساعدًا لك، ولا تترك لها فرصة أن تكون لك قلبًا وعقلًا، لأنها بذلك تخلق لك حقيقة وهمية، تقتل روحك ببطئ وألم.


(*) في كتاب “كيف أصبحوا عظماء” ذكر قصة أول محرك سيارات ياباني، لطيفة جدًا.

أنا والكتاب (٠١) ؛ القصة

قياسي

من ورقة لأخرى أتذكرك ؛ في كل كلمة أقرأ أحرفها، بعد كل سطر وقبل انتقالي للذي يليه، ويغمرني امتنان بينما أحشر كتابي بين أقرانه معلنًا انتهائي منه، وأنا أتابع مجموعها يتزايد باستمرار.

عندما كنت صغيرًا ؛ لم تكن المكتبة بالنسبة لي إلا مجرد أثاث لا يختلف عن أي دولاب آخر، حتى اليوم الذي جمعتني وأختي فيه أمي لتحكي لنا قصة اختلفت عما سبقها من القصص، فعادة القصص كانت قصيرة وليدة اللحظة ومرتجلة، لكن هذه كانت عن كتاب حمل اسم “قصص الأنبياء”. كانت قصة ذلك اليوم عن آدم عليه السلام، وبداية الإنسان. بعيدًا عن تفاصيل القصة وطرحها سؤال البداية في ذهني، أعتقد بأن تلك الفترة كانت الأولى التي أنظر فيها إلى المكتبة بشيء من الإعجاب، واعتقدت وقتها بعقليتي الطفولية أن القراءة هي الفارق الأول والأخير بين البالغين وغيرهم، واعتقدت بأن مقياس القيمة لكل كتاب تكمن في عدد صفحاته، وبأن أبي هو الأكثر علمًا بالبيت لأنه صاحب الكتاب الأكبر على الأرفف.

تجربتي مع القراءة وحتى العاشرة كانت مجرد وسيلة أخرى لتقضية الوقت، وكانت الوسيلة الأخيرة في القائمة، والتي لا ألجأ إليها إذا ما وجدت غيرها. وكانت كل الكتب التي أقرؤها مجرد قصص عالمية مختصرة ؛ “أوليڤر تويست“، “الفرسان الثلاثة“، وغيرها.

اشتريت أول كتاب خاص بي وأنا في العاشرة، حيث كان كل ما سبق من مكتبة أمي بالبيت، كان الكتاب الجديد عبارة عن عشرين قصة قصيرة، حملت عنوان “أذكياء القضاة”. أذكر بأنني اشتريتها من بازار في سوق حراء الدولي (في عام ١٤٢١هـ تقريبًا)، وأذكر بأنني أُعجبت بالقضاة، وأحببت اسم “إلياس” كناية عن إعجابي بالقاضي إياس، حتى أنني قمت بإعراب بعض القصص من الكتاب في أحد الإجازات الصيفية مع أمي. وبعدها بفترة انضم إلى كتبي الخاصة مجموعة جديدة لها نفس الأسلوب، مجرد قصص قصيرة ؛ “أذكياء الحكام”، “قصص في الرحمة”، “قصص في الشجاعة”.

المرحلة التالية كانت مع قصص الأستاذ نبيل فاروق والأستاذ أحمد توفيق، والتي حملت عنوان “روايات مصرية للجيب” ؛ “رجل المستحيل”، “فارس الأندلس”، “فنتازيا”، والتي كنت أستعيرها من خالتي “لنا عبدالجواد” كلما زرتها. وفي الصف الثالث المتوسط (في عام ١٤٢٥هـ تقريبًا) اقترح علي مدرس اللغة العربية، “الأستاذ طارق الرفاعي” بأن أقرأ رواية “الشاعر” للأديب “مصطفى لطفي المنفلوطي“، ففعلت .. وأتبعتها بكتابيه “في سبيل التاج” و”النظرات”. وأذكر بأن أبي اشترى لي وقتها مجموعة من الكتب حملت عنوان “عظماء الإسلام” ؛ وكانت ثمان كتب لكل واحد منها نحو الثلاثمئة صفحة. فقرأتها، وأتبعتها بقصص “هاري پوتر” للكاتبة البريطانية “جوان رولينج” .. ومن ثم توقفت عن القراءة !!

توقفت عن القراءة حول الخمس سنوات، وعدت بعام ٢٠١١. عودتي للقراءة هذه المرة كانت مختلفة عن سابقتها، عودتي كانت أقوى وبطريقة أعمق وأكثر فائدة .. ما تغير معي من الفترة الأولى للفترة هذه كان سبب القراءة.

(يتبع)

رابط يسجل عدد الكتب التي قرأتها منذ ٢٠١١ وعدد الصفحات

 

 

عن فكرة الموت

قياسي

* هذه التدوينة للصديق “فيصل الغامدي” @faisalGH

عن فكرة الموت ، محاولة لفهم الحياة بشكل أعمق :

تبدو فكرة الموت هاجسًا دائمًا يلازمنا طيلة رحلة الحياة ، يغدو- ومن بين كل منغصاتها ومخاوفها- الأكثر تأثيرًا على قراراتنا واعتقاداتنا، بل ونظرتنا إلى الحياة نفسها. فكرةُ الموت تعني أن ينتهي هذا العالم الذي لا يعرف الإنسان غيره ولم يدرك سواه ، وفيه نمت قدرته على الإدراك والوعي والتجريد، وإليه ينتهي كل ذلك.

يضيف الكاتب المغربي عبد السلام المُساوي معنىً فلسفيًا آخرًا للموت وعلاقته الضرورية الوجودية مع الحياة، حين يقول : “إننا لم نولد أحرارا قطّ، إننا محكوم علينا بالحياة، قبل أن نكون محكوما علينا بالموت. قولة قد تبدو بسيطة في صياغتها ولكنها تشير إلى مدلول فلسفي عميق، صرخة مفعمة بغير قليل من الشعور المزدوج بالاغتراب. فهو اغتراب الإنسان الذي لم يختر ولادته فوجد نفسه مورطا في هذه الكينونة المفروضة، وهو اغتراب الإنسان الذي صار محكوما عليه بالموت بمجرد أن دوى الوجود بصرخته الأولى. “

وبالرغم أن فكرة الموت قديمةٌ قِدَم الحياة نفسها ، إلّا أن كل المعرفة الإنسانية المتراكمة لحقيقته لم تتقدم من خلال فلسفته وبحثه المنطقي بل جاءت من عالم آخر،عن طريق الوحي والرسائل الإلهية. فمن ناحية فلسفية كان الصراعُ في تعريف الموت دائرًا حول الفترات التي يصنعها حدوثه، وليس في حقيقته ، فالفلاسفة الماديون ينظرون إليه كفكرة انتهاء ووداع لهذا العالم المادي ، على النقيض من أولئك الذين ينظرون إليه كبداية حياة حقيقية وخالدة ، في كلا الحالتين تظل فكرة الموت نفسها غامضة متمردة على أي تعريف يسع حقيقتها هي بحد ذاتها، دون التعريف بها كنهاية أو بداية أو ضد.

تقترب فكرة الموت من حياتنا ، تأخذ منا رفاقًا وأحبابًا، تأخذهم بشكل ما إلى عالم آخر لا نعرف عنه إلا نصوصًا لا تقوى خيالاتنا على احتمال وجودها في عالمنا . تقترب فكرة الموت من حياتنا فتصدمنا رغم إيماننا التام بأنها ستأتينا يومًا ، فنتعامل معها وكأننا كنّا نجهل قدومها ،ونتمنى حدوث معجزة استثنائية ، ليتجاوز الموت من نحب هذه المرة ، نعلم أن هذا لم يحدث مرة في العرف الإنساني ولن يحدث ، إلا أن فكرة الاستثناء هذه تظل حاضرة دائمًا ، تقول بضعفنا أمام جبروت الموت وجهلنا له.

لا نستطيع أن نحكم على فكرة الموت ، ليس لها أجندة معروفة في عالمنا لنحكم عليها أو ننتقد ، عادلةٌ هي بشكل ما، قريبة جدًا .. ومُقلقة، إيماننا المسبق بوقوعها يساعدنا على تجاوزها أحيانًا ، نسلم بحدوثها دون أن نطمح لنعقل أسبابها وكيفيتها ، فهي تنتمي لعالم لا نعرف عنه شيئًا لنتحاكم إليه ، والأمر المقلق أننا سنقدم عليها لا محالة ، دون حتى أن نرجع لنخبرعنها أو أن نضيف إلى المعرفة الإنسانية أي شيءٍ عنها.

ويصدف أنه من يعيش الحياة بأكثر طريقة مثالية يستطيعها ، يبدو هو الأكثر استعدادًا للموت ! ، مارك توين يخبرنا ذلك بشكل ما حين يقول أن الخوف من الموت نابع من الخوف من الحياة ، والرجل الذي يعيش بشكل مثالي مستعد للموت في أي وقت! ، وكأن الموت امتدادٌ آخر للحياة ، ونتيجة يجب أن لا نقلق بشأنها إذا عالجنا السبب(الحياة) بأفضل طريقة استطعناها. نستطيع القول أن الأديان جاءت قبل هذا لتحذر من الموت وتخبر أن الحل في العيش كما نُؤمر وعندها فقط سيكون الموت نهاية سعيدة ، بل هو في الحقيقة “حياة” ! كما في حالة الشهادة في سبيل إحياء هذه الأديان. لأجل الموت نحن نحيا كل يوم بتجرد وسمو عن كل ماديات هذا العالم ، نحاول أن ننتمي من الآن إلى ذلك العالم الغيبي المجرد بالرغم من كل ما يدعونا هنا لندنو وننسى.

ستيف جوبز- مؤسس شركة أبل- يُخبر عن أهمية وجود هذا المعنى من خلا ل تجربته قائلًا:” إن تذكُّرُ حقيقة أننا جميعاً سنموت قريباً هي أهم فكرة ساعدتني على صنع القرارات الكبرى في حياتي. لأن كل شيء يتملك الإنسان، سواء من التوقعات العظيمة، أو الاعتداد بالنفس، أو الخوف من تداعيات الفشل، كل هذه الأمور تضمحل في وجه الموت، لتترك الحقيقة الأهم، وهي التذكر بأنك سوف تموت بلا شيء، وهذه أفضل طريقة ساعدتني على الإبداع في هذه الحياة، إذ حينما أصل إلى لحظة الموت، فليس لدي ما أخسره.ليس الموت مفيداً وحسب وإنما الموت فكرة فلسفية عميقة، تجعلك تشعر بأن وقتك محدود جداً في هذه الحياة، فلا تضيعه لتعيش متلبساً بحياة وأفكار الآخرين. لا تتورط بالدوغمائية، أو محصلة العيش بالفكر الذي يعتقده الآخرون، ولا تجعل الضوضاء لأصوات الآخرين تغرق صوتك الحقيقي بداخلك.”

نستطيع أن نختم ونقول أنه من دون فكرة الموت يبدو معنى الحياة ناقصًا وغير منطقي ، ويظل إدراكنا ووعينا للحياة مُعلّقًا بفكرة الموت بشكل عميق وفلسفي ،وبالرغم من أن فكرة الموت لا تزال غامضةً وُمقلقةً ، فما زالت تضفي للحياة معانيها ، وقيمتها ، تجعلنا نهتم ونحرص لأن تكون لأعمالنا معنى ، وتقف هذه الفكرة خلف قائمتنا الطويلة بأمنيات الحياة، من أجلها نقدس اللحظة ونحسب الزمن ، ومن أجلها نلوم أنفسنا كلما ضيعنا أوقاتنا ، أي كلما اقتربنا من فكرة الموت أكثر!