قصة قصيرة ؛ وليد في بلاد المحن والفتن – ١

قياسي

(1)
وليد هو أحد آلاف الذين كتب لهم أن يبصروا النور في بلاد لم تعرف النور، الظلام هناك حالك، ظلمات فوق ظلمات، جور وظلم وعدوان، بلاد لم تعرف سوى الكذب والتدليس والافتراء، في تلك المدينة المجاورة للساحل انزلق من رحم أمه. أمه هي الأخرى لم تعرف مصيبة أشد لعنة من العيش هناك، حيث الأنثى مهانة، ما هي إلا أداة لاستحضار المتع، تطبخ وتجلي والأهم أنها تشبع حوائج الرجل الجنسية. بدأ وليد يكبر،يرى ويسمع، لكنه لا يعي ولا يفهم، بل يتلقن. يحاول والده أن يكون أبا ناجحا (قدوة) لكنه يحسب أن اقتداء ابنه به يعني تكوين نسخة كربونية مطابقة له، متسلط يمارس الوصاية القبيحة من حيث لا يدري، يعتقد أن من حقه تحديد خيارات وليد على هواه خوفا عليه، فالوالد هو من واجه تحديات الحياة وفشل في معظمها، يملك من الخبرة “الفاشلة” الكثير، يظن بذلك أنه سيحمي وليد من الفشل، مسكين لا يعلم بأنه يرسم لوليد خريطة حياة مشوهة أخرى كخريطته، هو ببساطة يقتل موهبة وليد وطموحه وأهدافه المستقبلية. مسكين أنت يا وليد

بلغ وليد السابعة، ذهب إلى المدرسة، خدعوه فقالوا: إن المدرسة تهذب الأخلاق وتساعد في زيادة المعرفة. بعد عدة أسابيع نال وليد أول صفعة من مدرسه، وضربة أخرى بعصا الخيزران، واستمر على هذا الحال في جميع سنوات دراسته. لا عجب، فالمعلمون في بلاد العجائب تلك، يحسبون الطلاب قطيعا من الغنم، وهم من يفترض منهم أن ينشئوا أجيالا متعلمة مستنيرة. في المدرسة وفي مادة الدين تحديدا، قرأ وليد بأن الله رؤوف غفور رحيم، لكن معلمه لم يكل ولم يمل من ترديد آيات العقاب والوعيد بالعذاب والجحيم، باتت علاقة وليد مع ربه علاقة خوف ورهبة بدلا من كونها علاقة حب وطمأنينة. في المدرسة علموه أن محمد (ص) هو القدوة وهو الصادق الأمين، لكنه كان نادرا ما يلتقي أشخاصا صادقين وأمناء في تلك البلاد. الكذب والخداع من أبرز سمات مجتمعه، أن تكون أمينا هناك يعني أن تحكم على نفسك بالتيه والضياع. في بلاد الفتن، يعلمون الناشئة مبادئا ويأتون بأخرى، يدّعون بأنهم على الحق، جعلوا من الاسلام منهجا ولم يطبقوه، رحم الله علي عزت بيچوفتش الذي قال: “الاسلام ليس نظرية، الاسلام أسلوب حياة”. مسكين أنت يا وليد.

كتب هذه التدوينة ؛ الصديق “عبدالرحيم بخاري” @raheem_22

خاطرة مبعثرة (٠٥) ؛ أنا قلبي دليلي

قياسي

“أنا قلبي دليلي قال لي هتحبي”

ليت لي مثل ذاك القلب ليلى، يخبرني عن طريقي المتعطر حبًا، أو يحكي لي شيئًا من حكايات الأمل الكاذب، فيتركني غارقًا في انتظار لا أعرف له نهاية .. لكنني لا أجد إلا الخوف ؛ خوفٌ على مصيري من ذبول العواطف، وأن أُترك فيه عاجزًا عن ترديد صرختك العصفورية من تغنياتك بالحب، خوفٌ من الظلمة المستمتعة بمتابعتي متخبطًا بغير هدىً، كاتمة ضحكتها الساخرة على تيهي وضياعي.

أظن بأن خوفي هذا يدفعني للتهرب منه، مصبدًا نفسي ببحثي عن المعاني في كل لحظات حياتي، مرددًا على نفسي بأن الحب سماوي، لا أرتضي له إلا أن يكون أسلوبًا لي في حياتي .. وأتمنى بيأس أنني لا أختلق شيئًا من ذلك، لأداري رهبتي وخوفي.

أجدني أمام طريق لا أعرف أين يسير بي، أهو طريق أسير فيه وحيدًا بأبدية، أم أن تيهي هذا سيصلني بطريق أحدهم يومًا ما ؟ لا أعرف، فأنا لا أميز صوتًا ولا نورًا يدلاني على الوجهة أو المسير. حتى هذه الوجوه التي اعتدت تكررها في حياتي، لم أعد أتعرف عليها، ولا أستطعم نكهتها في يومي.

حتى الحب عندي صار مشرئبًا بالأحزان، بالخوف، والألم .. خوف من وقوعي أسيرًا تحت رحمة حب لا يعرف الرحمة، ولا احترامًا لتلك الأصفاد، فيتركني معلقًا على جداره، أتابعه يغيب عن ناظري. أو أن يسرقني حبٌ لا يعترف بأيٍ من المعاني، فيفرض علي رتباته المملة، كاسرًا بذلك ما أؤمن به من سماوية الحب وأبديته، فأجده باردًا لا دفء فيه. أخاف أن يمتص مني حياتي، ويتركني أتابع تلك الحيوات التي تتابع مسيرها من حولي، وأنا واهن أنتظره لقودني إلى النهاية التي اختارها.

مؤلم ألا يجد حبك لصوته مردودًا، ولا لكلماته معقبًا، ولا يجد في نظرته إلا من يتحاشونه .. باستمرار. تغمرك أحيانًا فرحة أنانية بوصلك بمن تحب، وتردد الجدران صرخات الألم أحيانًا أخرى. وفي لحظة يأس تحاول أن تمتنع، وتعهد بذلك، وتلم أشياءك نحو العزلة، وتغمغم ببعض الكذبات في طريقك، ناعتًا نفسك بالسخافة باستمرار.

أخبرني أحدهم مرة بأن أجرب حبًا، وبأن تلك تجربة كغيرها، دخولها مقامرة انتصارنا فيه محتمل كخسارتنا. قاطعته بعصبية توحي له بعدم تفهمه لخوفي المتغلغل بأعماقي. أستثقل جسدي للحظات فأتركه هاويًا على ركبتيه، وأصرخ أن يا ملائكة الحب والرحمة، أنا أعرفكم بخطاياي وبظلامي المرعب الذي يسكنني، لا أعتقد بأنني جدير بأي حب سماوي، وأجدني أيضًا مترفعًا عما هو دونه. فلا أجد جوابًا لصرخاتي، بشيء من التفهم.

تستحق تلك الابتسامة من هو أطهر مني وأنقى، لا أريد لخطاياي مداهمة تلك العينين، كما تغتال من حولي كل ما هو جميل، متابعة إياي في خطواتي، متلذذة بالخوف التي يمتص روحي، وأنا أتأمل الجثث المتساقطة .. أتهاوى .. وأردد بسخط أو بيأس ؛ “خايف مرة أحب وعارف ليه أنا قلبي خايف” .. فأتراءى ابتسامة العندليب الحزينة، وأتخيل تربيتته على كتفي، وهمسته بأنه يتفهمني أكثر يا ليلى.

خرافة سوق العمل

قياسي

في رحلة من مراحلي الحياتية -وأعتقد بأنها أيضًا لازمة للأغلب في وقتنا الحالي- وجدت نفسي واقفًا أمام عدد لا متناهي من البوابات، ووجدتني مطالبًا باختيار أحدها، ليكون بوابتي إلى العالم بعد ذلك، أو ما يُسمى بتخصصي الجامعي، وفي العمل اليومي بعد ذلك.

وبطبيعة الحال ؛ وجدت نفسي في موقف مزعج جدًا، فأنا مطالب باختيار واحد من ملايين التخصصات، والمرور بأقل ضرر ممكن من ملايين النصائح والتوجيهات حول كل تخصص من تلك التخصصات. أغلب تلك التخصصات بداية ونهاية تدور حول مراعاة الاحتياج العام، أو ما يسمى بسوق العمل.

قرأت مرة مقولة للأديب توفيق الحكيم ؛ “لا يوجد إنسان ضعيف، بل يوجد إنسان يجهل موطن قوته“.

شخصيًا ؛ أنا أؤمن بصحة المقولة السابقة، وأؤمن بخرافة فكرة مراعاة سوق العمل، فالمدرك لمجال قوته، العاشق لمجال عمله، سيخلق لنفسه نهاية بيئته المناسبة لمزاولة عمله الذي يحب، والذي يضمن له رسم مواهبه على أرض الواقع، وفي التغيير أو معايشة يومه.

صحيح بأنه قد تواجه المرء صعوباتٍ في طريقه أحيانًا، ولكنه في النهاية سيقدر على ترجمة خيالاته وعشقه على أرض الواقع، وسيبدع في أعماله ومنتجاته، وسيشار إليه بعد ذلك بأنه علم في مجاله.

أعتقد بأننا بحاجة لكسر التقليدية التي تقتلنا، وتقتل المواهب التي بداخلنا .. يترتب عليك -حتى تبدع- أن تقف بوجه الآخرين مانعًا إياهم من الخضوع لتحكماتهم في دقائق حياتك.

يقول الدكتور بشير الرشيدي ؛ بأن أول ممهد لأي طريق سيجد الكثير من العقبات، أكثر بكثير مما سيجد السائرون في خطاه.

لا تقتلوا إبداعاتكم، ولا تكترثوا لما يُسمى بسوق العمل .. وتذكروا دائما بأن المبدع سيقدم بعض التضحيات بداية الطريق، يقوده إيمانه بما سيجد في نهايته.


حساب لطيف، ينشر بعض المقولات للأديب توفيق الحكيم 

قصة قصيرة (٠١) ؛ كتابًا ودينارين

قياسي

يحكى أن رجلًا  أعطى مسكينًا مرة كتابًا ودينارين.

وصلت الأقدار بين طريقيهما بعدها بفترة من الزمن، فسأل الأول صديقه المعدم عما فعله بتلك الأعطية، رد الأخير بأنه اشترى بأثمانها خبزًا أشبعه لعدة أيام. فابتسم صاحب الأعطية بسخرية واستخفاف حاول كتمانهما، مستذكرًا بأن الكتاب الأعطية كان يحمل عنوانًا شبيهًا بـ”كيف تصنع ثروتك ابتداءً من دينارين فقط”.


في عام ١٩٤٣م ؛ طرح كتاب “التحفيز والشخصية” لأبراهام ماسلو نظريته السكلوجية (النفسية) والتي نسبت له بعد ذلك باسمها الشهير “هرم ماسلو للاحتياجات الإنسانية”. باختصار ؛ يتكون هرم ماسلو من خمس مستويات، لا يمكن المراهنة على التغيير في أحدها ما لم يكن هناك اكتفاء لما يسبقه.

(١) الاحتياجات العضوية (الفسيولوجية) : التنفس، الماء، الأكل، التوازن، الجنس، الإخراج، النوم.

(٢) احتياجات السلامة : السلامة الشخصية، سلامة الممتلكات، الأمن الوظيفي، الأمن النفسي، أمن الموارد، السلامة الصحية.

(٣) الاحتياجات الاجتماعية : الحصول على أسرة، وصداقة، وحب.

(٤)  الحاجة للتقدير.

(٥) الحاجة لتحقيق الذات.

شخصيًا ؛ أختلف في بعض التفاصيل الدقيقة لفكرة أبراهام ماسلو، لكني بالعموم أعتقد بصحة هذا الأنموذج. وأعتقد أيضًا بأن درجة الاكتفاء تختلف من شخص لآخر.

تأمل بسيط في أحوال مجتمعنا، تفسر تهافت الخطط النهضوية والتنموية، والنظريات الثقافية والتطويرية ؛ السياسي الذي ينادي الجوعى لتقبل معاني الحرية، المثقف الذي يضع المساكين بين دفتي كتاب مطالبًا إياهم إنهاء قصتهم مع المسكنة .. إلخ.

من قليل ما أنا منه متأكدًا ؛ أن أي انطلاقة للتغيير يجب أن تنطلق من مجتمعها وهمومه، لا من خيالات وحالات نفسية نريد لمجتمع تبنيها.