رسالة إليّ أنا

قياسي


زهور عمري كانت هي سقياها، كنت أنا الأرض التي أجدبت، وهي السماء التي تظلني وعني أمسكت. فصيّرتني سجينها بين الأربع حيطان، وكانت هي والقدر سجانتي ويأسي ووحدتي. رمتني مستوحشًا وسط كل ذاك الفراغ، لا أمل، لا بصيص، بلا اطمئنان.
لا تولد العنقاء من رمادها في كل مرة، حتى الشمس ستسأم يومًا من مشرقها وطلوعها المتكرر بلا فائدة.
أنفاسي قطران، سقياي الجحيم والنيران، وكل ما كنته أنا كسيح قزم، وجيفة تعافها الغربان. مددت ما تبقى من ساعدي، لأخط بعيني على جدرانك أني أكرهك، أكره تقديسي لكِ وصغاري عندك، أكره فنائي في كل ما هو عنكِ، أكرهك من شدة حاجتي لكِ.
وكتبت بهواني وخيبتي رسالة مني إليّ، علني يومًا تهت من نفسي، من الماضي، والتاريخ، ومن كل الذكريات.


الخوف، الروح، الحب والاطمئنان، كل المعاني تلتصق بالاهتمام.
وأنا لم أهتم إلا بذاتي وعقلي المشرئب بالذكريات. كل الأحجار على رقعتي حركتها أنا، لي ولذاتي، وبكل مفردات الخطيئة العائمة فوق الأنانية، كنت أنا كل اهتماماتي .. حتى انتشلتني هي.
يا نبيلة الطاولة المستديرة ؛ لم أفهم تمجيدك للأسماء، فالفضيلة فينا تقتلها الخطايا في الآخرين، لا يتقبل البشر الطهرَ والملائكة بينهم.
يا سيدة البرق والسحاب ؛ لمَ التبسم لأيامنا وهي التي تلتف من ورائنا كلما غفلنا عنها ؟
يا جمالًا، ويا بهجة ؛ إلام تصير أجسادنا، التي تشل حركة أرواحنا كلما انشغلنا ؟
يا مؤنسة الأيام والقدر، والسيف المسلول على روحي وحدها ؛ إلامَ تتشكل الأيام، وأنا المستعبد في قصة عشقك وعينيك ؟
يا كمالًا، وصبابة، وكل الأشياء التي لا تُصدق ؛ إلامَ المسير وأنت كل المعنى في كل الخطى، وأنا الهباء في الميزان عندك ؟


الخوف، الهواجس، الانتحار، وكل مواجهاتنا للحياة ثورة ضد الأسر والاهتمام.
أسخف ما نتذكر الأسماءَ، فلا يدل الذل والخطايا علينا إلا المدلولات، وتشبث الفضيلة بالأسماء تمحوه الخطايا. كم ستبدو حياتنا أكثر خفة وليونة، إذا ما تخلت عنا هذه الأصابيع والكلمات التي تشير إلينا.


من أين أتاني الحزن يا مليكتي، وكيف جاء ؟
محملًا بكل الخطايا المنمّقة، والشحوب والخيلاء.
أولئك الذين انتقدوا الأنانية يومًا، انتقدوا مصلحتهم التي لا يرونها فيك. لا عيبًا في الأنانية ؛ هي توقعات الآخرين التي تسبقك إليهم، وتؤصل فيهم خيبات الأمل كل يوم، وتتركك للغربة والوحدة في كل مرة.
لا تتأففي إذا ما ثرت في الطريق وحدي، إذا ما حطمت القمقم المسدود في عصوري، إذا ما نزعت خاتم السلوك عن ضميري، فتآمر بين المسافة والزمن كفيل بأن يجعلانك أبرد من صقيع الشمال في صدور أقرب الناس إليك.


من أين أتتني وحدتي يا صغيرتي، وكيف جاءت ؟
محملة بالوحشة والضباب، وخطىً لا يؤنسني في سبيلي إلاها.
لا تُقام نصب العظماء إلا بأكفان قلوبهم المستكبرة.
لا يقوم الحب إلا غجري، بجنون المقدوني الأعظم، وأوتار لحن في حانة ببغداد.
صحائف الجنون أكفان الغربة فينا، توابيت القمر في ليالينا أزهار لوعتنا الدفينة.
أولئك الذين يحبون بعمق، يخسرون كل شيء.


ما الذي يفعله فينا القمر ؟
عشق مخمّرة، همومٌ معتّقة، ورشفة ليل لا تُرى فيه إلا أحزان الغرباء، وشوقي الطفولي إلى البكاء، على نعشٍ انتهش من روحي إرادتها في الحياة.


ما الذي يفعله فينا القمر ؟
منتشيًا باليأس يمضغ آمالي اليابسات.
لا وطن، روحي التي استوطنتكِ قربانٌ يمحو سخطي.
لا وطن، تاجك الرفيع مرصع بجماجم أحلامي، صولجانك الذهبي براءتي الكسيرة.
لا عاشت سماءٌ تغتالنا كل مرة، ولا عاش الوطن.