مع منتصف شهر يناير الفائت، تشرفت بأولى زياراتي إلى جمهورية مصر العربية ؛ الأرض التي لطالما كانت مصب اهتمامي ؛ بتاريخها، وأدبائها، ومفكريها، وكل عظيم وبسيط فيها. وأعتقد بأن صعوبة الزيارة الأولى أنها كانت ترميني إلى كثير من الاستفهامات، شغلتني الكثير من الأسئلة، تخيلت الكثير من التفاصيل، بجمالها وبشاعتها .. كل شيء !!
كل ما سمعته عن مصر، كان متطرفًا، متناقضًا، بين عشاق ومشمئزين، دمعت أعين البعض شوقًا وهو يخبرني عن أيامه فيها، وصرخ البعض مستنكرًا ذهابي إليها، خصوصًا في ظل الوضع الأمني المجهول هناك .. وأعتقد بأن كل ذلك أصابني بشيء من الخوف، من عودتي منها مع ردة فعل من كل ما هو مصري، أو كل ما هو ليس كذلك.
خاطرة (١) : كتاب آخر في القاهرة
أعتقد بأنني أحببت “وسط البلد” أكثر من غيرها، أعتقد بأنني وجدت جزءًا مني هناك، بين ميدان يرفع “التحرير” شعارًا له، وآخر يعلوه تمثال لطلعت حرب باشا، بشاربه، وسيفه، وطربوشه القديم. تنتشر في تلك المنطقة الكثير من المكتبات ودور النشر ؛ ما يقارب الخمسين مكتبة إن لم أكن مبالغًا، لا تبعد الواحدة عن الأخرى أكثر من عشرين مترًا فقط. والمدهش كان في تنوعها القوي عن بعضها البعض، فلا تكاد تجد كتابًا متكررًا في كثير منها. أضف إلى ذلك تناثر باعة الكتب المتجولين في الشوارع ؛ كتاب عميق في الفكر العربي، وآخر هناك يحكي سيرة عظيم، وكتاب يدافع عن موقف سياسي، أو أخير يذكرك ببعض الطرف الشعبية .. الكثير جدًا.
انتشار الكتب بهذه الكيفية أثارت إعجابي بشكل كبير، خصوصًا لأنها كانت تيسر للعامة القراءة، ولأنني -في المملكة العربية السعودية- لا أجد الكثير من المكتبات الثرية، فضلًا عن كونها متجاورة مع بعضها، مما يصعب عليّ إيجاد كتاب ما، لندرة الكتب أو لقلة المواضيع المنشورة.
أضف إلى ذلك انتشار المقاهي في تلك المنطقة، والتي بدورها كانت تضع لكل فترة من الزمن كتابًا معينًا لتتم مناقشته في موعد محدد، كما أن كتب الفترة تكون متوفرة في المقهى نفسه ! كثيرًا ما يزور مثل هذه اللقاءات بعض المثقفين، وأحيانًا كاتب كتاب الفترة أحيانًا .. في النهاية ؛ كل تلك النقاشات تضمن عقلًا متفتحًا أكثر، وملمًا بموضوع الكتاب، وجهات ضعفه.
هذه المقاهي وغيرها كانت متوفرة من قديم الزمان، أشهرها هو “مقهى الفيشاوي”، الذي فقد قيمته الثقافية حاليًا، ولكنه لا يزال يحتفظ بموقعه الجغرافي، وبمكانته في قلوب العامة، والسياح.
خاطرة (٢) طفل وقسيس على المقعد الخشبي
في زيارتنا للمنطقة التراثية في القاهرة، والتي تضم عددًا من المساجد القديمة (مسجد عمرو بن العاص مثلًا)، وبعض الكنائس والمعابد اليهودية الأثرية. أعجبتني محاصرتهم للكنائس بالحدائق المخضرة، أعتقد بأن ذلك يخلق راحة نفسية للاجئ إلى الكنيسة من ذنوبه، الهارب من سوداوية الحياة إلى قطعة السماء تلك، أو للمغادر للكنيسة المجابه لتقاسيم الحياة.
لفتني في الحديقة منظر الطفل الذي جلس إلى قسيس يحادثه ؛ كان القسيس وقتها يجيب على أسئلته الوجودية الطفولية البسيطة بكل صبر وابتسامة، أعجبني جلوس القس إلى الطفل بدلًا من صراخه عليه مطالبًا إياه بالوقوف، وبالنظر إلى الحياة بأعين القسيسين. أعجبني حوار القسيس مع الطفل ؛ عندما يحادثه بلغة بسيطة، ويخبره بأن الله يطلب منا أن نطيع والدينا، أن نتعلم، وأن نتوقف عن أفعالنا الشقية التي تؤذي الآخرين.
شخصيًا ؛ أعجبني تعامل القسيس مع الطفل، ومع أسئلته، ومشاكله العائلية. أحيانًا يُخيل إلي بأن أكثر ما يساعد الكنيسة المعاصرة على الانتشار، هو أبوابها المفتحة للجميع، التي تنادي بالرحمة والتعامل الحسن بشكل أساسي في خطاباتها، وكمبدأ أساسي في الدين .. أعتقد بأن الناس تبحث عن دين يكون لها جنة رحمة في الأرض.
خاطرة (٣) قارب على النيل
أعتقد بأن أجمل اللحظات التي قضيتها هناك، كانت في أحاديثي التي جمعتني مع بسطاء الناس هناك ؛ سائق الأجرة، البائع المتجول، قائد القارب الذي أخذنا في جولة حول النيل، والذي كان شابًا في العشرين من عمره، اضطر نتيجة انجراف أبيه إلى المخدرات وانصرافه عن عائلته، إلى العمل لتأمين لقمة عيش لأمه وأخواته.
يقول “سيد” قائد القارب بأنه ترك الدراسة قبل سنوات، وبأنه عمِل لمدة سنتين في الأردن، حتى يضمن لأهله قوت يومهم. وهو الآن يشغل قاربه هذا ليضمن لهم حتى دراستهم الأكاديمية !
في منطقة أخرى قرب جامع الأزهر الشريف، لفتني بائع بسيط، كبير في السن، إلى الدرجة التي تخفي عينيه داخل تجاعيد وجهه. جلست أتفكر في حالته المالية، ورسمت كثيرًا من التصورات عن تفاصيل يومه .. كانت كلها مرعبة، للدرجة التي لا تحترم شيخوخته ولا انحناءة ظهره، وتجبره على الجلوس الطويل هنا منتظرًا من يشتري منه أمتعته.
أتفكر كثيرًا في حالنا، في اللقمة التي وُلدنا نأكل منها، والأسئلة التي لم نكن لنتطرق إليها لو لم تُشبع احتياجاتنا الأساسية. وأخاف أن يسألنا الله تعالى عن نعمتنا هذه، وكيف أضعناها بأن صرفتنا عمن لم ينعم بمثلها.