لا تخلو هذه المدينة من الأحزان .. تتشربها .. تعيشها في كل تفاصيلها. يخيّل إلي أحيانًا بأن أناسها لا يعترفون بيوم بلا حزن وألم، معتقدين بأن ذلك يصنع أيامهم، رغم مرارة المذاق.
كنت غريبًا عن تلك المدينة، حديث عهد بالأحزان. كنت معتادًا قبلها على ارتماءاتي في أحضان أمي، كلما شاغلني شاغل أو أهمني هم ما، وكانت هي تستقبليني بكل دفء، وحنية. تطمئنني بتربيتاتها على كتفي، تخبئني بين ذراعيها، وتهمس في أذني بأقترب أكثر من قلبي. كان انشغالها عني وسط خوفي مطمئنًا، وابتسامتها تحكي الكثير، وتخبرني عن الأمل، وكل ما يحتاجه واقفٌ على قدميه.
ولكل شيء نهايته ؛ فلم أكن لأنسى اليوم الذي أقلقها فيه ما أقلقني، بحثت عن ابتسامتها أحاكيها، فلا أنا سمعت منها كلمة، ولا أبصرت بسمتها .. وكان علي تقبل الأمر، رغم الخوف الذي اعتصرني، فهذه همومي تكبر بشكل مرعب.
خفت أن أكون كسرت لها ابتسامتها بكل أنانية، فنهضت متحاملًا آلامي، مثخنًا بالمخاوف، متصنعًا سلامتي مما رماني بادئ الأمر، ابتسمت أولى ابتساماتي الكاذبة، وهربت متصنعًا مرحًا في هروبي !
جربت الهروب إلى الورق، جربت كتابة كل الألم. فكرت بأن أترك مُرة أوراقي للزمن، يسرقها ويجفف معانيها. فكرت بأن أرميها في طريق أحدهم، يكون جاهلًا بي وبما هو عني، وأنا أستشف على ثغره لا مبالاته وابتسامته الباردة. حاولت تجاهل ذلك، مصبرًا نفسي بأنني أنشئ مدرسة جديدة في البوح، فلم أفلح، ولم أؤمن بتلك المدرسة .. فلم تناسبني البتة. وكانت أحزاني تصرخ في رأسي بعشوائية وغوغائية، راجية مني كتابة كلماتها، فلم أكتب ما يفهم، وكان تزاحمها يخنقني أكثر فأكثر.
جربت البكاء للبحر، الصراخ لأصم الحجر، والبوح لأعمق الحفر .. فلم أعرف محادثة من لا يحادثني.
جربت تصنع القوة، وكذب الابتسامات، فعرفت بأني كنت أكدس أحزاني فوق بعضها، ولا أترك لها حرية للتعبير .. وكان ذلك يقتلني ببطء، ويسرق ابتسامتي.
نصحني أحدهم بأن أعمد إلى قاعدة “فرق تسد”، وأخبرني بأنه من المجدي تفكيك الأحزان إلى أمور غير مهمة. فلم أعد أحفل بتلك الأمور، وترفعت عنها، وظلت تنهشني كما كانت تفعل مجتمعة.
نصحني آخر بمعايشة تلك الأحزان كما تريد هي، بأن أمشي في طريقها الذي اختارته لي، وأتركها تأكلني وتأكل أيامي .. فلم أطق ذلك.
نصحني غيره كثير وسمعت أقوالهم، واختلفت آراؤهم فتشاحنوا فيما بينهم، وصار صراعهم إثبات لأنفسهم، وبقيت أنا مع أحزاني، أبكي نفسي، وتبكيني أيامي.
قرأت مرة كتابًا لـ”واسيني الأعرج”، افتتحه بكلمات قال فيها : “إن الكتابة ليست مجرد أحاسيس هاربة مرتبطة باللحظة، ولمنها رؤية وحرقة تلتصق بالجسد إلى الأبد، وتحمله أحيانًا إلى ما طاقة له به”. خرجت وقتها ومشيت على طريق حجري طويل، تخبرك المياه بين أحجاره عن قرب عهده بالسماء. مشيت بحزن تنعيني شمسه الغائبة، بشيء من الدموع والقصص. ترتكز على جنباته أرفف ودكاكين، حياني عجوز يكنس باب أحدها، فلم يجد ردًا، ظن بأنني تجاهلته، إلا أنني كنت غارقًا لحظتها في ابتسامة صديق على قارعة الطريق، يخبرني بها بأنه يتفهم ملامحي المتصلبة، يحكي بها عن صمته تقديسًا لحزني أيامًا، ويقول لي بأن أرمي على أقدامه أحزاني، وبأن أنم للحظة هانئًا.
هي رسالة شكر لأقرب الأصدقاء إلى نفسي. واعتراف بسبب كتماني بعض الأسرار عمن أحب.