أواخر أيام أحمد أمين [ماذا علمتني الحياة ؛ جلال أمين]

قياسي

 

لازلت أتذكر أبي، بوضوح تام، وهو جالس، منذ ما يقرب من ستين عامًا، في جلبابه الأبيض في مكانه المعتاد على الكنبة الكبيرة وسط الصالة، وعلى يمينه مائدة وضع عليها عدد كبير من زجاجات الأدوية المختلفة الأشكال والألوان، حيث كان يعتمد في التمييز بين دواء وآخر على اختلاف أحجام الزجاجات، بعد أن أصبح من الصعب جدًا عليه، من فرط ضعف بصره، أن يقرأ اسم الدواء المكتوب على الزجاجة. كان يحاول أن يكتب شيكًا لمستأجر الأرض الزراعية التي يملكها، بيد مرتعشة، فعندما فرغ بصعوبة من كتابة الاسم والمبلغ، وجاء وقت التوقيع، وجد صعوبة بالغة في أن يكتب اسمه هو بالطريقة التي تعودها والتي يمكن أن يقبلها البنك، فلما اضطر إلى تمزيق الشيك وكتابة غيره، وواجه نفس الصعوبة فوجئنا بانفجاره بالبكاء، إذ وجد أنه لم يعد قادرًا على القيام بهذا العمل البسيط جدًا، والمهم جدًا مع ذلك، والذي طالما قام به دون عناء.

كان تدهور صحته ونظره هو بلا شك السبب فيما أصابه من حزن. ولابد أن هذا التدهور هو ما جعله يفقد اهتمامه بأشياء كثيرة مما يهتم بها سائر الناس، ولم تكن تافهة لهذا الحد في نظره في الماضي. كان في سنواته الأخيرة يذهب إلى بعض الحفلات المهمة، في مناسبة رسمية، فلا يرى داعيًا لرابطة العنق، بل وقد يستغني عن حلاقة ذقنه، من فرط لا مبالاته بما يمكن أن يكون عليه منظره، أو ما يمكن أن يكون رأي الناس في ذلك. الأغرب من ذلك لا مبالاته برأي الناس في مقالاته إلى درجة قبوله لأمر لازلت حتى الآن أتعجب أشد العجب من قبوله له. لابد أن هذا كان في أوائل الخمسينات، وكانت مجلة الثقافة لا زالت تصدر ولكنها لم تستمر طويلًا بعد هذا، إذ واجهها من المصاعب المالية ما اضطرها للتوقف. وكان أبي يكتب فيها، في كل أسبوع، مقالًا  قصيرًا جدًا لا يزيد على مائتي كلمة أو ثلاثمائة تحت عنوان «خاطرة». وكان يعبّر عن ضيقه أحيانًا بأنه لا يجد فكرة جديدة يكتب عنها مقالة، وقد حان موعد تسليم المقال.  (…)

لا زلت أشعر ببعض الألم ووخز الضمير حتى الآن، كلما تذكرت منظر أبي وهو جالس في الصالة وحده ليلا، في ضوء خافت، دون أن يبدو مشغولا بشيء على الإطلاق، لا كتابة ولا قراءة، ولا الاستماع إلى راديو، وقد رجعت أنا لتوي من مشاهدة فيلم سينمائي مع بعض الأصدقاء. أحيي أبي فيرد التحية، وأنا متجه بسرعة إلى باب حجرتي وفي نيّتي أن أشرع فورًا في النوم، بينما هو يحاول استبقائي بأي عذر هروبًا من وحدتهو وشوقًا إلى الحديث في أي موضوع. يسألني أين كنت فأجيبه، وعمن كان معي فأخبره، وعن اسم الفيلم فأذكره، كل هذا بإجابات مختصرة أشد الاختصار وهو يأمل في عكس هذا بالضبط. فإذا طلب مني أن أحكي له موضوع الفيلم شعرت بضيق، وكأنه يطلب مني القيام بعمل ثقيل، أو كأن وقتي ثمين جدًا لا يسمح بأن أعطي أبي بضع دقائق.

لا أستطيع حتى الآن أن أفهم هذا التبرم الذي كثيرًا ما يشعر به شاب صغير إزاء أبيه أو أمه، مهما بلغت حاجتهما إليه، بينما يبدي منتهى التسامح وسعة الصدر مع زميل أو صديق له في مثل سنه مهما كانت سخافته وقلة شأنه. هل هو الخوف المستطير من فقدان الحرية والاستقلال، وتصور أي تعليق أو طلب يصدر من أبيه أو أمه وكأنه محاولة للتدخل في شؤونه الخاصة أو تقييد لحريته ؟ لقد لاحظت أحيانًا مثل هذا التبرم من أولادي أنا عندما أكون في موقف مثل موقف أبي الذي وصفته حالا، وإن كنت أحاول أن أتجنب هذا الموقف بقدر الإمكان لما أتذكره من شعوري بالتبرم والتأفف من مطالب أبي. ولكني كنت أقول لنفسي إذا اضطررت إلى ذلك “لا أرغب في أكثر من الاطمئنان على ابني هذا، أو في أن أعبر له عن اهتمامي بأحواله ومشاعره، فلماذا يعتبر هذا السلوك الذي لا باعث له إلا الحب، وكأنه اعتداء على حريته واستقلاله ؟”.


* جلال أمين (كاتب المقالة) – صاحب الصورة أعلى التدوينة

* أحمد أمين (والد الكاتب) – صاحب الصورة نهاية التدوينة

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *