التقنية التي تستعبدنا

قياسي

 

في أحد أيامي بالجامعة (جامعة الملك فهد للبترول والمعادن ) كنت جالساً إلى وكيل الجامعة للشؤون التنفيذية، وكان يحكي لنا عن ذاك التطور الذي يشهده المجتمع البشري بالعموم، وضرب لنا مثلاً بأن غرفة لطالبين بالثمانينات كان يكفيها مدخلي كهرباء، بينما أصبحت ثمان مداخل كهربائية لا تلبي كافة احتياجات طالبين آخرين بوقتنا الحالي !!

ولا يبدو ذلك مستغرباً بملاحظة انتشار الإلكترونيات وباستيلائها على حياتنا الشخصية.

جلست مرة أفكر ؛ لماذا كل هذه الاختراعات ؟! وما هي أهميتها كل تلك الإلكترونيات ؟! في فترة ما ؛ كان تواصل اثنين ببعضهما مقترناً بمسافة من المشي والانتظار وقرع الأبواب، إلى أن دخلت إلى عالمنا تلك الهواتف الثابتة – بمراحل تطورها – والتي صارت رابطاً جيداً بين بيوتنا ومنشآتنا، إلا أنها ربطت إمكانية التواصل مع أحدهم مرتبطة بمعرفة مكان تواجده الحالي، وهذا ما جعل للهواتف النقالة – أو الجوالة – فرصة انتشار وقبول واسعين وسبباً منطقياً لانتشارها خصوصاً بحجمها الذي يزيد سهولة حملها من فترة لأخرى وباستمرار، مما اختصر علينا كثيراً من الوقت الذي كنا نقضيه باحثين عن أحدهم. إلا أنها – في نفس الوقت – جعلت لنا دوائراً معرفية أكبر، مما يجعلنا نقضي نفس الوقت أو أكثر في تواصلنا مع الآخرين.

لا ننكر صراحة فضل التقنية في تعرفنا على المزيد من الأصدقاء، وبأن بعضهم أضحى من أعز أصدقائنا. ولا أنكر شخصياً بأنني كنت أتمنى في فترة من حياتي صديقاً لا يعرفني بشكل شخصي، أحدثه بشكل دائم عن كل ما يدور بخلدي من قصص أو أسرار .. ولكن ألم تستحوذ هذه التقنية على أكثر مما تستحق ؟!

لقد انفجرت في وجوهنا بوابة التقنية بكل أسرارها وقصصها، حتى صار مشهد الشاب الذي يمشي مطأطئاً رأسه مألوفاً إذا ما كانت أصابعه تداعب هاتفه الجوال، وامتلأت أحاديثنا بأحدث إبداعات التقنية وبآخر المرئيات المعروضة عليها، واعتدنا زيارة المواقع الاجتماعية واعتدنا كون ذلك ثاني خطوات استيقاظنا من النوم، بعد النظرة الخاطفة على هاتفنا الجوال .. صدقوني ؛ هذه التقنية تستعبدنا بشكل من الأشكال يوماً بيوم.

وبدلاً من توفير المزيد من وقت يومنا صارت هي كل أيامنا، وبدلاً من أن تكسبنا مساحة أكبر من الأصدقاء صارت هي ما يشغلنا عن أحبهم إلينا، وتبين بأن دائرة الأصدقاء التي تكسبنا إياها أقل عمقاً مما كانت عليه، واتخذت منحىً سلبياً في حياتنا الصحية والاقتصادية …إلخ، ولم تعد علينا بذاك النفع الذي نبرره دائماً.

جرب أن تمشي لساعاتٍ بدون هاتفك الجوال، جرب أن تقنن زياراتك لعالم الإنترنت، جرب ألا تنشئ كثيراً من الحسابات الإضافية في عوالمه الافتراضية، وألا تفتتح يومك خلف إحدى الشاشات، جرب أن تستخدمها أكثر مما تستخدمك هي، وابتعد عن جنون شاشاتها، وعن عشوائية تدفق بلايين المعلومات منها. واصنع لنفسك مساحة أكبر من الحرية والخصوصية، واقض من يومك فترة أطول مع ذاتك التي تستحق منك الكثير، افهمها، واعرف خباياها، واقرأ علاقاتك بشكل أدق وأكثر رونقاً وجمالاً .. صدقني ؛ لن يعطي ما يستحق من يحركه فهماً بسيطاً لنفسه ومن حوله، وللحياة وما حوله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *