لا يمكن أن أكون الوحيد الذي يخالجه شعور طفيف بالذنب إذا ما ضحكت على بعض النكات. فإذا ما نظرنا إلى عموم الساحة الكوميدية اليوم، نجد بأنها تسعى بشكل أكبر إلى تجاوز الخطوط الحمراء الأخلاقية أو الاجتماعية، وما يُسمى بالتابوهات إن استخدمنا مصطلحاً أكثر دقة. سواءً أكان ذلك فلمًا أو عرضًا كوميديًّا، فالجميع يسعى إلى النطق بما سكتنا عنه، وفضّلنا نكرانه أو تجاوزه، معتمدين على مساحة من الحياة لم نتجرأ على السخرية منها. وهذا هو أساس الكوميديا الحالية، فلطالما ارتكزت الكوميديا على مر العصور على عنصر المفاجأة بشكل أساسي، وعنصر المفاجأة هذا حاليًا هو المواضيع غير المنطوقة. لنتحدث مثلًا عن أغلبية الكوميديين على الساحة، فيمكن تلخيص أغلبية المواضيع التي يتطرقون إليها بالجانب الجنسي، الديني، السياسي، العنصرية العرقية، بل وحتى قد تكون سخرية من ذوي الاحتياجات الخاصة ومن لغة الإشارة التي يستخدمها الصم البكم. وقد يُعد ذلك منه مضحكًا وظريفًا، ولكن وعلى الجانب الآخر، فلا أعتقد بأن أيًا من الآباء لن ينهر ابنه إذا ما سمعه يسخر بهذه الطريقة أو يتطرق لكل هذه المواضيع محاولًا إثارة ضحك المستمعين. فهذه المواضيع تشكّل تابوهات أخلاقية أو اجتماعية، لا يُسمح بتجاوزها عُرفًا، بغض النظر إذا ما كان لتجاوز تلك التابوهات أثر إيجابي أو سلبي على حياتنا وطريقة تفكيرنا.
يقول الأديب الإنجليزي الشهير (شكسبير): “تتضمن كل مأساة، عنصرًا من الكوميديا. الكوميديا ليست إلا مأساةً معكوسة”. فمأساة كالكساد العظيم، أو الانهيار الاقتصادي الكبير الذي شهده العالم، بداية من 1929 وحتى أوائل الأربعينات من القرن الماضي، كانت دافعًا ليُطلق الكوميدي البريطاني (تشارلي تشابلن) فيلمه (Modern Times) 1936، منتقدًا بأسلوبه الساخر تلك المدنية الحديثة التي سعت إلى استبدال العامل البشري في الصناعة بالآلات الحديدية. واصفًا ذاك الجشع البشري في استنزاف كل شيء، بداية من الموارد الطبيعية، إلى طاقة العامل البشري المسكين في المصانع والمؤسسات. ويُقال بأن الكوميدي البريطاني قد تأثر بمشاهدته لأعداد المتشردين والعاطلين عن العمل، وازديادهم عددًا بوتيرة حادة، ليخرج بعدها بفكرته عن الفيلم. فالكوميديا في تلك اللحظة تجلّت بأرقى صورها، مستمدّة من الشارع مأساته كموضوع أساس، في سبيل مواجهته وإيجاد الجرأة والشجاعة لمحاربة تلك المآسي، فهذا هو أحد أهم أسباب الكوميديا، خلق الجرأة لمواجهة ذاك الموضوع الذي تتناوله. وإذا ما تطرّقنا إلى فيلم 1923 (Our hospitality) كمثال آخر، يمثّل فيه الكوميدي الأمريكي (باستر كيتون) دور الشاب البسيط العائد إلى مدينته الأم، وكله شعور بالحنين إلى الوطن والأمل بالحياة الكريمة التي سيرسمها بعد ذلك، ليتفاجأ بكونه طرفًا في خلاف قديم بين عائلتين، لم يعد أي معاصرٍ يذكر أسبابه، وإنما يتذكر الجميع الكراهية المتبادلة. لينتقد بذلك تلك الخلافات العائلية القديمة، ويبيّن أثرها السلبي على حياتنا اليومية، وبأنها تقف عائقًا بيننا وبين الحياة الكريمة التي نصبو إليها جميعًا. وهذا ما أقصده عن الكوميديا في أرقى صورها؛ عندما تقف الكوميديا كمتحدث شعبيّ ضد المآسي.
لن أقول بأن الكوميديا اليوم تحتضر أو أنها منعدمة، فالكوميدي الأمريكي (ستيڤ كارول) مثلًا، يُقدم كوميديا جيدة في وقتنا المعاصر، تستمد مواضيعها من الحياة البسيطة للفرد، بوجهة نظري الشخصية على الأقل. حتى الساحة العربية المعاصرة لا تخلو من الكوميديا الجيدة، فيلم (عسل إسود) مثلًا للفنان المصري (أحمد حلمي)، الذي يتحدث عن الشاب المغترب العائد إلى وطنه الأم، ليكتشف شكلًا جميلًا من الحياة، لم يتمكن من رؤيته بأعينه الغربية في بداية الفيلم.
لكن سأقول بأن الكوميديا ككل أشكال الفنون، انقسمت إلى راقٍ وتجاري ؛ فالكوميديا الراقية تستمد من الشارع ومن أنفس الشعب همومه ليواجهها، كما ذكرت مسبقًا. بينما الكوميديا التجارية تضرب في جميع الاتجاهات التي تحقق للمؤسسة التجارية أرباحها، بشكل جد طفولي وغير مقنن. معتمدة في ذلك على تحوّل أغلبية الأفكار عن الحريات إلى مطالبات ساذجة بعيدًا عن الفكرة الأصيلة، فالمطالبة المستمرة بالحرية تُعد أحد معالم هذا العصر، ومن هنا تظهر العديد من أشكال المطالبة بها، الفرد ضد المجتمع، النسوية ضد الذكورية، المواطن ضد الدولة، الأبناء ضد الآباء، إلخ.. ولكل من هذه المطالبات أشكال ساذجة كثيرة، بدعوى أن كل التفاصيل لا تتجزأ عن الفكرة الأساسية، أو لأسباب أخرى كعدم وضوح الفكرة أو غيرها. المهم، بأن الكوميديا التجارية تأثرت بهذا الجو من نقد الموروث، مما جعلها تتحول إلى أن تكون قنبلة ذرية في وجه التابوهات، أو الخطوط الحمراء، بغض النظر عن النتيجة المرجوة من هدم الموروث الثقافي الاجتماعي الأخلاقي على حد سواء. ومن هنا يُخلق ذاك الشعور الطفيف بالذنب الذي تحدثت عنه بادئ الأمر.
تبقى المشكلة الأولى -بالنسبة لي- في عالم الكوميديا، والفكر على حدٍ سواء، هو شخصنة المواضيع، لهذا أجد بأن الكوميديا الناجحة هي التي تتطرق إلى المواضيع بعيدًا عن الأشخاص. وكما أنني أعتقد بأن حرية الفرد تقف قبلما تخدش كرامة أية حرية لإنسان آخر، فأجدني أيضًا منزعجًا من الكوميديا التي تضرب بكرامة أي إنسان عرض الحائط، وبشكل خاص من السخرية ممن يواجه الحياة مبتلىً بلا حول له أو قوة، لظروف قهرية.
وكنقطة أخيرة؛ أعتقد بأن على الكوميديين تقدير الكوميديا حق قدرها، واستعياب دورها على حياتنا اليومية، وبأنها ليست ضحكة مجردة فحسب، لهذا أتمنى بأن تختار الكوميديا المعاصرة مواضيعها بعناية، وألا تكون مجرد ضربة عشوائية بهدف ترويجي بحت. بتعبير آخر على الكوميديين تقدير الكوميديا حق قدرها، فللكوميديا بوقوف الضحكات في صفها الأثر الأقوى في هدم التابوهات ونقدها، إيجابية كانت أو سلبية.وفي النهاية، سأستشهد بمقولة البوسني كوغكو، أحد الشخصيات الرئيسية في فيلم Twice Born، مُوجِّهًا شابًا إيطاليًا، ليقول: “إذا ما أردت أن تفهم الحرب وأثرها، فعليك أن تستمع إلى كوميديّ وهو يشرحها، باستر كيتون مثلًا”.
تم نشر هذه المقالة في صحيفة (هافينغتون بوست عربي).