مقعد خشبي

قياسي


“الناس لا تبوح بأسرارها للأصدقاء، وإنما للغرباء في القطارات، أو على المقاهي العابرة”*، أو على مقعد خشبي بفقاعة معزولة عن ضجيج المدينة التي تحفها.


مقعد خشبي .. واللجوء إليه إرهاقًا من الحياة، على أحاديث الألم تارة، وأكاذيب الأمل تارة أخرى، وقد يُغني شعورٌ بالألفة عن الكلمات، فقط شعور الألفة.
مقعد خشبي .. وجليسان اعتصرت أيامهما الألم، ففاضت أرواحهما أسىً وكدر. جلسا يلتقطان شيئًا من أنفاسهما بعد منافستهما الحادة ؛ أيهما الأكثر أتراحًا ؟ ولأيهما النصيب الأكبر من مرح الحياة في سخريتها ولهْوِها المعتادين.
ابتسم الأول استسلامًا وسخرية، مستحضرًا ضعفه في اللعبة غير العادلة أمام الحياة والقدر، فخالجته مشاعر مكابرة أنطقته مواسيًا ذاته بسؤال : “بأي شيءٍ قد تفدي دقائقًا يرجع فيها إليك بصرك ؟”.
ففاجأه الجواب البارد : “لن أقبل بهكذا صفقة”.
دقائق من الصمت والعَجب، قطعها تبرير الضرير : “أي قيمة أرجوها من نعمة يصاحبها الخوف ؟ لا نعيم مع ترقب الأفول”.
التفت الأول -محركًا يديه مبررًا بحركات لا معنى لها- : “اعتقدت بأنك أكثر تقديرًا لنعمة الابصار، لا أفهم منطقك الذي يجعل كل النِعم بلا قيمة، فالزوال مصير كل شيء في النهاية”.
رد بابتسامة مطولة، ثم : لم أقل ذلك عن كل النعم، وإنما قصدت ما يكون تحت ملكيتنا، ومن تكويننا. أظن بأن أعظم االنعم هي ما يقبع خارج ملكيتنا وتحكمنا، كالعلاقات البشرية مثلًا، فوقوفها بعيدًا عن دائرة سيطرتنا تجرنا إلى حوار دائم، ورابطة تساؤل مستمرة، تفضي بتكرار إلى العطاء، إلى المحبة، والضحكة، وكل ذلك سيكون عُملاتك وقوتك في المسير .. صدقني، مثل هذه العلاقات (النِعم) أكثر عمقًا، وأشد صدقًا.
التملك قوة، ولكنه يتركك عند وصولك أعزلًا، التملك رغبة، يُمكن إشباعها بقليل مجهود، وكثير من الحظ”.
“ولكنك بهذا تلغي فرضيات عدم ملكيتنا لأجسادنا”.
“إن لم نكن هذه الأجساد، فما سنكون ؟”.
ابتسم الأول لنفسه، وقام : “مجرد غريبان على هذا المقعد الخشبي”.


(*) : بهاء طاهر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *