أغانٍ كلها حرية وعدالة

قياسي

 

لا أعرف صراحة من أين ستبدأ القصة، ولا أعرف كيف أبدأ ؛ أخاف من أن أنتقصها إن أنا حكيتها، أخاف من ظهورها مشوهة وغير كاملة لكم .. ولكنني سأحاول !

كنت وقتها طفلة بعمر الزهور، تلاعب أباها كلما قدم إلى المنزل، وتكثر من ارتماءاتها في حضن أمها، ودائماً ما تقضي وقتها حول ألعابها المتبسمة فتضحك وتبتسم.

وأعتقد بأن أجمل أوقاتي كانت تلك النزهات اللطيفة التي يفاجئني بها أبي عادة، أحببت إفزاعي لوالدتي من فترة لأخرى بصرخاتي الطفولية، أحببت تلويحاتي لأبي من بعيد أو من الأعلى أحياناً، أحببت تلك الأرجوحة، تلك الزهور المنتشرة، وبقعة الطين التي دائماً ما ألطخ بها ملابسي.

كنت أتعجب وقتها من تلك الصور المنتشرة في الطرقات، كانت متناثرة فعلاً وبكل الأشكال، لشاب صغير السن يتبسم ابتسامة صفراء. لم ترق لي ابتسامته وقتها، ظللت أطلق عليه النكات وأسخر منه ومن شاربه السخيف ذاك، لم أستشف في ملامحه ذكاء ولا فطنة، كنت أتخيل ضحكات غبية يطلقاها بشكل مزعج، فأكتم ضحكاتي في نفسي أ وأطلق ضحكة عشوائية وأتبسم.

أذكر مرة بأنني أخبرت أمي مرةً بإحدى نكاتي عن ذلك الشاب، فلم تنطق بكلمة ولم تضحك، بل اعتصرت يدي في كفها بشيء من الضيق، وبدت على وجهها أمارات الخوف والفزع، ولم تنطق بكلمة لفترة حتى أنني تمنيت بأنني لم أنطق بكلمة. أذكر مرةً بأنني سألت أبي عن سبب انتشار تلك الصور، فأخبرني بأنهم الطغاة يتصنعون الرقة والابتسامة، وكطفلة لم أفهم يومها ما معنى التصنع، ولم أعرف من هم الطغاة.

حتى تلك اللحظة التي صرخت فيها بلادي تستنجدنا، فهبّ لها من بيننا شعب يتوشح عزة وكرامة، يتغنى بأغانٍ كلها حرية وعدالة، وكانت بذلك ثورتنا الشعبية الطاهرة، والتي تمسكت لقرابة السنتين بنضالها عن منطلقاتها ومبادئها. فارتدى المدنسون لأرضنا ثياباً تقطر دماً، وصاحوا فينا مهددين بكل وحشية يعرفونها، فنثروا علينا نيرانهم بعشوائية مقيتة، وبسذاجة.

فتزاحمت الأرواح منا تتصاعد إلى بارئها، وتنادت في إخوانها على الأرض بألا تضيعونا هدراً وأن اثبتوا، وصاحوا بأن يدفع الكل كل ما يملك إلى النهاية، فكلما زاد المستبد من طغيانه، رسم بنفسه بداية لسقوطه وهزيمته النكراء. لازلت أذكر جدي يعتصر ألماً لكل جنازة ويتمتم : “لعلها آلام تمحي منا أي حب للاستبداد أو للظلم”، لا أزال أسمع صرخاتي وبكائي وأنا أتلمس وجه أمي المتشبع بالدماء، لا أزال أذكر كلمات والدي يخنقها الموت. قال لي بأن “شعبنا هذا يرسم مستقبلاً رائعاً، هنيئاً لكم حريتكم التي خفنا عنها، هنيئاً لكم نصركم القريب، اشراقتكم، وكرامتكم، واستحقاقكم لهذه الأرض الشامية الطاهرة”، أيقنت وقتها بأننا لا نواجه إلا استبداداً ونظاماً سابقاً كان يحكمنا، وبأننا نحن الثورة الشعبية، نحن سوريا الحقيقية، نحن أهل العزة والكرامة .. فصحنا “مالنا غيرك يا الله” وأكملنا طريقنا، فرسمنا مستقبلنا الذي منه نتشبع كرامة، وعزة، وحرية !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *