حياة صاخبة، لنصّ جيّد

قياسي

“أنا هنا لأحيى حياة صاخبة” – زولا

أنا تعني ذاكرتي، كذلك هو الأمر بالنسبة إلى جميع البشر؛ الأنا تعني الذاكرة. وكلما تقدّمنا في العمر، تغدو الأنا أكثر وضوحًا، ويبدأ عالم الذكريات بالتضخم شيئًا فشيئًا، وبالتالي يمتلك البالغ، وكما يقول الفيلسوف-الروائي الإيطالي (أمبيرتو إيكو)، روحًا أكبر من الطفل الرضيع.

كطفل صغير، بكمٍ ضئيل من الذكريات وذاتٍ خصبة، تتشكل الذاكرة بمسارين أساسيين؛ الأول هو تفاعلاته الشخصية مع الحياة، تعاملاته مع الآخرين، وما يشهده في أيامه، أما الثاني فهو الهوية التي وُجد فيها، أو بعبارة أخرى، ما يمكن أن نطلق عليها الذاكرة المشتركة لمجتمعه، المتشكلة عبر تاريخه.

عمومًا؛ تعامل الإنسان مع ذكرياته انتقائيٌ بدرجة كبيرة، فهو يقوم بحذف الذكريات المُقلقة، كما يقوم بتشويه أخريات، فيحتفظ بها بغير الشكل الذي كانت عليه في أرض الواقع. وهذا ما نشهده أيضًا في قراءتنا لكتب التاريخ، وبعيدًا عمّا يكتبه المنتصرون في الحروب، يظل المؤرخ، ورغم محاولاته في الحيادية، خاضعًا لذات الانتقائية.

إذًا، فالأنا تعني الذاكرة، وأولئك الذين يفقدون ذاكرتهم، لا يعودون أنفسهم قبل الحادثة، فمحاولات استرجاع الذكريات هي محاولة لاسترجاع ذواتهم. ولطالما أرعبتني هذه الفكرة؛ أن يفقد الإنسان ذاته، لسبب طبيّ كان ذلك، أو للتيه في خضم متطلبات المجتمع والحياة. وهذا أحد أسبابي للقراءة والكتابة؛ طريقة أخرى للمقاومة على كل الأصعدة.

فالنصوص المكتوبة، في نهاية الأمر، هي الذاكرة المشتركة للبشرية. ومهمة الكتب الأساسية هي الحفاظ على هذه الذاكرة. أما بالنسبة إلى المكتبات، فهي الرمز الواقعي للرغبة في استمرارية هذه الذاكرة البشرية المشتركة. لتكون القراءة بذلك هي التغلب الممكن على محدودية ذواتنا بالمكان والزمان؛ وهكذا لن تكون واحدًا.

المزعج في التصور العام عن القارئ أو المثقف، هو أنه الإنسان الذي يلتهم كمية ضخمة من الكتب، ليبهر الجمع في مجالسهم، ويستأثر بالأحاديث مستعرضًا بكمّ المعلومات الهائل الذي يمتلكه، ويقدر على استحضاره بسهولة. وهذا التصور العام، هو المسبب الأساسي للكثير من عادات القراءة الشهيرة؛ تلخيص الكتب، أو القراءة السريعة، وغيرها.

وإذا ما دققنا في هذا المفهوم، سنلحظ بأن عملية القراءة هنا لا تغدو سوى شكل آخر للتلقين، ويكون الكتاب هنا هو مصدره، بكامل الأستاذية. والحقيقة أن هذا الشكل للقراءة، يُمكن أن يُعتبر، أيضًا، مجرد مضيعة للوقت، لأسباب كثيرة أبرزها؛ أن الإنسان، ومهما بلغت قدراته الذهنية، ليس بقادر على استحضار غالبية المعلومات التي تلقّاها في حياته. ومن ثم، هناك الإنترنت؛ وفرة المعلومات، وسهولة الوصول إليها، هذه هي السمتين الأساسيتين لعصر المعلومات الذي نعيشه.

ويُمكن أن نصف هذه القراءة بأنها خدعة كُبرى أيضًا. فالحضارة لا تعني الغرق في بحر المعلومات، والحقيقة أنه لم تشكو أي حضارة كانت من نقص المعلومات. فمن (أثينا) القديمة، وبكمية ضئيلة من المعلومات مقارنة باليوم، وُجد “المنطق”، أسلوب التفكير الذي تعتمد عليه الثورة العلمية في كل أزمنتها، بل والثورة الاجتماعية أيضًا في عصر التنوير.

ويبقى السؤال هنا: لماذا نقرأ إذًا؟ وفي محاولة للإجابة، نرسم للمعرفة هرمًا؛ يكون على رأسه “الفكرة المحورية” للنص أو الكتاب، وفي قاعه تكمن “التفاصيل”. فكتاب علميّ كالفيزياء ينطلق من أعلى الهرم نزولًا؛ يبدأ الكتاب بشرح مفهوم الفيزياء ومنافعه، ومن ثم هناك قوانين الحركة والسكون، متبوعة بقوانين (نيوتن) الثلاث للحركة، وما إلى ذلك من تفاصيلها كقوانين الحركة الحرارية Thermodynamics. وهذه هي طبيعة الكتب العلمية البحتة بالعموم.

هناك أيضًا الكتب التي تنطلق من أسفل الهرم؛ التفاصيل، ولا شيء غير التفاصيل. وهي بذلك غير ملزمة بالتطرق إلى “الفكرة المحورية” بطريقة مباشرة. ومن أمثلة هذا الشكل للنصوص: الروايات. واستشهادًا برواية (العمى) للبرتغالي (خوزيه ساراماغو)، والتي تحكي عن وباءٍ بالعمى يجتاح مدينة ما، فُهمت الفكرة المحورية للرواية لدى البعض بأنها تذكير بنعمة البصر، بينما فهمها آخرون بأنها نقدٌ حاد للمدنية الحديثة استنادًا إلى سهولة تفككها، وهشاشة قاعدتها الأخلاقية.

لا يمكن تحديد أي الفهمين هو الصحيح وأيها خاطئ، فهذا نقاش لم يُحسم لدى فلاسفة علم التأويل، أو ما يُطلق عليه “هيرمونيطيقا”. لكن الأكيد بأن عملية القراءة هنا، هي عملية تفاعلية بالدرجة الأولى، محاولة للإمساك للشيء في النص، وأن الكاتب الجيّد محتاجٌ إلى قارئ جيّد. وهنا يكمن التحدي في مثل هذه النصوص، والذي يمكن أن يكون، أيضًا، نوعٌ من اللعب الممتع بالكلمات. يقول (أمبيرتو إيكو): ؛مهمة الرواية هي التعليم عن طريق التسلية”، ويقول الفيلسوف-الروائي الفرنسي (ألبير كامو) في مذكراته: “إذا أردت أن تكون فيلسوفًا، فاكتب رواية”.

مهمة الكتب الرئيسية هي الحفاظ على الذاكرة المشتركة للبشرية، ولكل أشكال الكتب أهميتها، بناءً على ما تضيفه للقارئ من خبرة خلال رحلته معها. أبدع الكتب ما يصحبك بعيدًا عن صفحاته، أصدق المكتوب ما يغدو جزءًا من روحك. فاقرأ تجديدًا لتصوّراتك، وليس استجداءً بمعلوماتٍ تستذكرها، فالأكيد أن الغرق في بحر المعلومات يخلق في العقل فوضاه. ولا ترضى لذاتك إلا حياة صاخبة، تكن جزءًا من نصٍ مكتوب؛ جزءًا من ذاكرة البشرية وذاتها.

متابعة القراءة