خاطرة مبعثرة (٠٤) – رسالة من المنفى

قياسي

“وحين مرت أيام دون أن يأتي ليصالحني، حين لم يعد في الحياة شيء غير الشوق إليه، سعيت أنا إليه” [رواية الحب في المنفى : بهاء طاهر].

مؤلم كيف تلامسنا نصوص دون غيرها، خاصة إن اختارت بأن تضع يدها على الجرح الذي اخترنا نسيانه، وكان تجاهل آلامه لنا قرارًا، وكان هذا أمر كبريائنا أمام عواطف المحبين.

الظلمة التي تملأ المكان، البحر الذي يضرب الحجر بعصبية، الضوء الخافت المتأرجح من بعيد، قرفصتي وأنا جالس أتذكر ؛ “ربما يرى البعض أن أجمل ما في الحياة الحب، ولكن هؤلاء البعض أجمعوا على أن أصعب ما في الحب الوداع”، قرأتها لصديق مرة، أعقبها بنصيحته ؛ “لا تسكبوا أعماركم على عتبات حب لن يأتي” .. جلست أتذكر، تذكرت كلماته، وأتذكر تذكري لها لحظة مخالفتها، وأتذكر انهياري تحت صوت أم كلثوم ؛ “وضاع الحب ضاع” بين قلبين يتوقان لبعضهما، وغموض يبعدهما عن بعضهما.

لم أسمع بأغرب من هذه العلاقة، ولا أكثر ظلمة منها، ولا غرقًا في الاستفهامات أكثر، تجرعتها حتى ثملت بحِيرتها، كل ما فيها يبدو غير منطقي البتة، كل ما فيها يبدو قابلًا للهدم في أي لحظة، إلا حبنا لبعضنا، والذي كان يفرض حضوره فينا في أقسى اللحظات، وأكثرها امتزاجًا بالألم وبعض الكراهية .. كل مشاعرنا قابلة للشك، إلا هو ..!

رغم السعادة التي تنشي أرواحنا بعد كل تحية، رغم اللهفة لأيام مستقبل نتشاركه معًا، رغم فسافس الأمور التي تعني لنا الكثير، ورغم الابتسامة التي تصاحبنا لأيام، لاقتراب لقاء أو في ذكرى آخر .. كان الفراق حاضر في أيامنا، وخنعت لرهبته كل وسائل التواصل، وأعلنت فشلها التام، وعجزها أمام هيمنته وطغيانه. لكننا كنا نتذكر، بكل كلمة سمعناها سوية، بكل أرض خطونا عليها معًا، وبكل فكرة راودتنا في لحظة جمعتنا .. وكل ما حولي صار عذابًا يذكرني ويشدني إلى ذكرياتي، “ولم يعد في الحياة غير الشوق إليه” يا بهاء.

في ليلة أخرى سوداء، أسقطت قلمي عاجزًا عن كتابة نهاية تليق بهذه الكلمات، تبرأت مني مشاعري وأعلنت عدم جاهزيتها، وتهربت .. ليلة وداع، وصلتنا صبيحتها سخرية، تلاقت أعيننا وابتسمنا، وكانت كلماتي هذه حديثنا، وأجبت عن السؤال حول ما كانت سأنشر هذه الكلمات بالإيجاب، وأعقبت بأن الخاتمة المفقودة وحدها تحول بيني وبين الإعلان. نظرت إلى تلك العينين وقتها، في محاولة لفهمها، لم أشعر منها إلا بضيق من مشاعري المكتوبة، لم أميز كنهه أهو غضب أم ندم، إلا أنني داريته بابتسامة مصطنعة، وقلت بأنني لطالما تساءلت عما سيخفف وطأة وداعنا إن جاء، فلا أنا عشت لحظة جمعتنا، ولا عرفت سؤالًا لجوابي.


حمزة كاشغري (صاحب المقولتين عن الحب) : @Hmzmz

الروائي بهاء طاهر، صاحب رواية “الحب في المنفى

رأي واحد حول “خاطرة مبعثرة (٠٤) – رسالة من المنفى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *