جانب من الإعلام الذي أنشده

قياسي

قرأت بإحدى فترات حياتي مجموعة من كتب علم النفس الإنسانية، وأستطيع القول بأن غالبيتها اتفقت على حقيقة واحدة ؛ هي أن الإنسان مزيج أفكار وذكريات، وبأن تلك الأفكار تترتب بشكل أو بآخر على نوعية الذكريات التي عشناها، فكل تلك الذكريات وبكل أشكالها تترك بدواخلنا آثاراً قد لا نلاحظ انعكاساتها فينا ولا ترجمتها في أفعالنا، إلا أنها تترك فينا قناعات وردات فعل تفسر معظم عاداتنا اليومية.

خلاصة القول ؛ بأن كل كل معلومة تتلقاها في حياتك، سواء أكانت ملفتة للنظر لحظتها أو لم تكن، فهي تنطبع تلقائياً في بواطن ذهنك، وستكون بعد ذلك طريقتك العقلية ومنظومة تفكيرك التي توجه حياتك إلى المصير الذي تنشده وترسمه هي بعد ذلك*.

مثلاً ؛ في أحد الرسوم المتحركة الشهيرة، تدور القصة عن طفلة صغيرة تمتلك حلماً بحياتها، فتعصي أمر والدتها بأحد الأيام لتخرج مع أحد الشبان، ليتحقق بعد ذلك حلم حياتها وترسم لنفسها لحظاتها السعيدة اللائقة لأن تكون نهاية للقصة. لا أعتقد – صراحة – بأن الشركة المنتجة قصدت إرسال رسالة يكون بمضمونها أن عصيان الوالدين هو بداية السعادة، إلا أنني شبه متأكد بأن أثراً كهذا طُبع في كل طفل شاهد هذه الرسوم، بأن نضجهم وبداية حياتهم السعيدة ستكون لحظة عصيان الوالدين، كما طُبع في نفوسهم مبدأ الحرية، وشناعة الاستبداد، والإصرار على تحقيق الأهداف في المقابل !!

شخصياً ؛ لا أؤمن بأن منع الأطفال من مشاهدة مثل هذه البرامج سيكون الحل الأمثل للسيطرة على هذه المشكلة، “فالمنع أسلوب المهزومين والضعفاء” كما اعتاد صديقي (مشاري الغامدي) أن يخبرني، فالمنع عن فعل ما قد يعطي نتائجاً إيجابية لفترة، إلا أن الخروج عن تلك النتائج لن يلبث أن يصبح ظاهرة تنتشر سريعاً بعد فترة، لأنه ذاك المنع سيكون نوعاً من الوصاية ومن الاستبداد (وإن حركته غاية نبيلة)، ولأنه باعتقادي أن الإنسان بطبعه دائماً ما يشتاق للحرية ولمساحة أكبر منها.

يكمن الحل وببساطة في إنتاجنا لشبكة إعلامية قوية تستهدف زرع نبيل الأفكار في أطفالنا، مع تفادي الآثار الجانبية التي قد تحدث عن ذلك، “فالإعلام هو الوسيلة أو التقنية المستخدمة لنقل المعلومات” كما تم تعريفها مرة. أريد إعلاماً قوياً رائعاً، تكون روعته وتسليته هما ما يجذبان الأطفال إليه، أريد إعلاماً يتهافت عليه الأطفال بأنفسهم. أريد إعلاماً يقيّم نفسه من فترة لأخرى، يُدرس في مؤسسته تقدمها وتأخرها في تأثيره وانتشاره بين العامة. أريد إعلاماً مؤسسياً، يتقن اختياره للأفكار التي يطرحها، وللحوارات والنقاشات المتضمنة في أطروحاتها، فيصبغها بأسلوبه البسيط والعميق ليحرك به عقولنا نحو هدفنا المنشود .. أريد إعلاماً يتشرب مقولة (زيج زيجلر) “بأن مهمتنا في الحياة ليست أن نسبق غيرنا، بل أن نسبق أنفسنا”، أريده نجماً في مجاله يسمو باستمرارية وباحترافية نحو الكمال.


(*) :  كتاب “اهتم بذاتك” للدكتور فيليب ماكجرو، يرسم صورة جيدة عن هذه الأمور.

الشر المطلق كاختيار

قياسي

 

 

سمعت صغيراً بأن تسمية “الإنسان” بهذا الاسم كانت عن طبيعته الآنسة بمن حوله، وعن صعوبة حياته وحيداً. وشخصياً ؛ لا أعرف سبب هذه التسمية ولم يشدني البحث فيها، لا أعرف إن كانت لطبيعته الآنسة بغيره أو لسبب آخر كعادة النسيان فيه كما يقول البعض الآخر، إلا أنني متأكد تماماً من صعوبة الحياة وحيداً لفترة طويلة.

بداية ؛ أنا أؤمن بحاجة الإنسان لخلوة يقضيها من فترة لأخرى بعيداً عمن حوله، فذاك يعيد للروح نقاوتها، ويبدد عن سمائنا سحب همومها، ويعيد ترتيب الأفكار فينا، فيرجعنا إلى يومنا بذهن أصفيً وبأفكار أشد وضوحاً. إلا أنني أتعجب ممن يختار الوحدة كأسلوب حياة يعيشها، فيبعد عن سمائه كل من يقف تحتها، ولا يرسم أحدهم في حياته ولا يضع غيره أولوية لأيامه .. أتعجب ممن يختار الوحدة باختياره للأنانية كصفة يعيشها !

قرأت مرة للمفكر (علي شريعتي) كلمات قال فيهن : “الشر المطلق هو أن يقدم الإنسان مصلحته ومنفعته الشخصية على المنفعة العامة ومصلحة الآخرين”*. وشخصياً ؛ أؤمن بصوابية كبيرة في كلماته هذه، وأضيف عليها نكهة أخرى بتعريفي للأنا وللآخرين ؛ بأنني لا أحصر كلما (الأنا) في ذات الإنسان وحدها، وإنما أجعلها جامعة لكل ما يميل إليه الإنسان ويشعر ناحيته بانتماء يشده، سواءً أكان أرضاً أو دم أو قبيلة، أو حتى مدرسة فكرية أو مؤسسة عقدية ..إلخ

لا أرى عيباً في الانتماءات بمختلف أشكالها، بل إنني أعدها حاجة إنسانية، ومن حق كل إنسان اختياره لوقع أيامه وتفاصيل سيرها، ويحق له تحديد انتماءاته وأشكال حياته، ولكن لا تضيق إنسانيتك لتحشرها في تلك الدائرة التي تختارها، لا تلون أخلاقك ومبادئك من داخل الدائرة لخارجها، ولا ترسم لدائرتك حدوداً غليظة تغض بها عينيك عمن حولها.

أكره ما تنتجه العصبيات من عمىً عمن يرسم دوائره خارج دوائرنا، أكره ما تجعله فينا من تجاهل لأرواح الآخرين وتغابٍ عن مشاعرهم، وأكره تلك النظرة التي لا تفرغ الآخرين عن معانيهم وقصصهم التي لا نعرفها.

اجعل لنفسك دائرةً لطيفة المعشر، ارسمها بمختلف الأوان، اجعل لها حدوداً أنيقة تتفاخر بها، وانظر لدوائر الآخرين علك تضيف إلى دائرتك شيئاً من غيرها، “فنحن لا نعرف الحق بالرجال، وإنما نعرف الحق فنعرف له رجالاً” كما يقول الدكتور (يوسف القرضاوي) .. عامل كل الناس بما تفتضي إنسانيتك، عامل كل الناس بكل معاني الإنسانية.

(*) كتاب “النباهة والاستحمار”

خاطرة مبعثرة (٠٢) – في أروقة الأحزان

قياسي

بداخل كل واحد منا حزنه الذي يعيش، لكل إنسان فينا معاناة فِراق ترسم للقاءاته ضحكتها، لكل واحد منا دموعه وبكاؤه اللذان يشعرانه بلحظاته الجميلة، من باب إثبات الشيء بالضد لنسبية الضدان لبعضهما وعدم قابليتهما للقياس. وبالعموم ؛ تبدو تلك الأرض الحزينة مألوفة للجميع، بشارعها المظلم المكتس بالسواد، وبكل من يسير على جوانبه بشيء من ثقل الحركة، يعتاد الكل هناك على تلك النظرة الباردة خالية الروح التي يرمقها به غيره، والتي قد يبادلهم بها أحياناً بطبيعة الحال، تلك النظرة التي لا تفهم منها إلا اللامبالاة بغير الحزن الذي تضمره، والذي يستصرخ ألماً راجياً نهاية معاناته !

ومع تكرار أيامنا علينا، ومع تواتر لحظاتها وتتابعها ؛ تحتل بعض مواقفنا فينا معانٍ خاصة تميزها عن غيرها، فتسرق منا تفكيرنا وتجبرنا على شرود أذهاننا متجولين في تفاصيلها الصغيرة، نتخيل للمستقبل صوراً لم تكن، ونؤمن بشيء من السذاجة أحياناً ببعضها التي نعرف بأنها لن تأتي، لكننا وعلى الرغم من ذلك نداوم على ارتيادها وعلى الحديث عن نهاياتها وكأننا نعشق ذاك النوع من الابتسامات التي تتركه فينا.

لا يخلو أي إنسان من حزنٍ يعيشه، وأكاد أجزم بأننا نستمد من شعورنا بذلك إحساسنا بإنسانيتنا، وبأن الإنسان بلا حزن لا يكون إلا مجرد ذكرىً لا تضمر حياة ولا ترجو في حياتها إنجازاً.

ووسط كل تلك الصراعات والصرخات الداخلية تبرز حاجتنا الدائمة لمن يستمع لما يسكننا من ألم، فتغدو لأوقاتنا معهم دفؤها الذي يذيب ثلوج دموعنا، لتمسح عن أعيننا جمودها المعتاد، وعن أوجهنا تلك الأتربة التي صبغتها المشقة. وعلى قدر أحزاننا تكون حاجتنا إلى من نشاطرهم أوقاتنا، فنركن إليهم لما فيهم من طيبة قلبٍ وأذن صاغية، ينفسون بذلك عن أرواحنا شيئاً من حملها، إلا أننا نجد أنفسنا أحياناً مجبرين على الاحتفاظ بشيء لأنفسنا من تلك الأحزان، لخوفٍ يراودنا من تغير من نحب عما اعتدنا عنهم، بأن ندخل على قلوبهم حزن لا يطيقونه أحياناً، أو أن ننتقص من صورتنا في أذهانهم أحياناً أخرى. وشخصياً ؛ أعتقد بأن لأقربهم إلى القلب ميزته التي تجعله قادراً على قراءة تلك الأحزان التي نخبئها عنهم، وإن لم يستطع قراءتها تجده يبحث عنها بشيء من الإلحاح والخوف، فيرسم ببحثه ابتسامة دافئة تمتزج بشيء من الضجر أحياناً، أو بالاستسلام أحياناً أخرى.

الأكيد بالنسبة إليّ على الأقل ؛ هو أن فقداننا لهؤلاء الأشخاص يترك فينا جرحاً يكون اندماله شبه مستحيل، فتغدو أيامنا في بعدهم صعبة قاسية، نراهم يتجسدون الأحزان ويتلخصون معانيها، وتداعبنا ذكرياتهم في كل مكان اعتدنا لقاءهم فيه، وتمتلئ أحلامنا بخيالاتهم، حتى أنهم يصيرونها كوابيساً أحياناً بكلماتهم القاسية، فتوقظنا دموعنا لتردنا إلى عالمنا باكين، بدموع ألم بدلاً عن تلك الدافئة التي كانوا يلونوننا بها، ويملؤون ذكرياتنا آلاماً يذكرنا بها كل حولنا، فنمني أنفسنا أحياناً بأن تلك الأيام لم تكن، أو بأنها كانت كل العمر أحياناً أخرى، ونظل في صراع داخلي ؛ يرجونا بأن ننفجر على من اختار ابتعاده عنا تارة، وتجده يصبرنا بتفاصيل اللقاء القريب تارة أخرى، راجياً بأن يكون ذلك قبل أن نطلبه منهم.

كلمة أخيرة ؛ بادلوا أصدقاءكم كل ما تكِنّون من مودة ومحبة، ولا تيأسوا من عودة أحدهم وإن أخبركم برحيله. لا تتأخروا في إخبار أحدهم بما يعنيه لكم، فلن تأتي تلك اللحظة المثالية لذلك إن أطلتم انتظارها، فاصنعوا لحظاتكم المثالية بأنفسكم، وأخبروهم بما تشعرون تجاههم، وأبقوهم على اطلاع دائم بتصاعد محبتكم لهم، أخبرهم عن تلك القصص التي يحكيها لكم ما حولكم عنكم، وعن خيالاتهم التي تدعبكم لتخلق لكم تلك الحظات الجميلة، وبأنهم جعلوكم تبتسمون في نومكم إذا ما زاروكم في أحلامكم. أخبروهم بما تروي لكم قلوبكم الصافية، فهذا ما يجعل للصداقة ديمومتها. فصدقوني إن قلت لكم بأنه لا تغني الأفعال عن هذه الأقوال، كما لا تغني الأخيرة عن الأولى. وصدقوني إن أخبرتكم بأنه لا أجمل من لقاءاتٍ تتبع لحظة الفراق، وبأنه لا أبرد على القلب من عفوٍ عن أوقات صعبة جعلها أحدهم من نصيبنا !!

نظرة أخيرة على المنزل

قياسي

كانت حال أسرته الفقيرة دافعه في مبادرته لتوسيع دائرة البحث عن لقمة العيش, لن ينسى ابتسامة أبيه المترددة, وارتماءت أخته الصغرى في حضنه متأسفة, أو تبريكات أمه ودعواتها .. والنظرة الأخيرة على منزله الذي بدأ بالتلاشي من عينيه شيئاً فشيئاً, وهو يبتعد أكثر وأكثر.

قد يرى أحدنا نفسه في موقف مشابه لما أقصّ هنا, فقد كثُرت بيننا اغتراباتنا ذات الألوان الأكاديمية غالباً, قد نعتقد بتفهمنا لمشاعر الاغتراب والمتغربين .. ويعتقد البعض من حولينا بسخافة مشاعرنا الاغترابية.

صعب جداً .. أن تعيش مثقلاً بآمال من تحب, أن تملأ نفسك بهواجس الفشل وتخيلات لحظاتها, أن تكون تحركاتك القادمة منبع أمل للمقربين من قلبك .. والكثير من المشاعر الصعبة التي قد يكون من السخف محاولتي لوصفها أو تخيلها, لأنني -ولله الحمد- لم أعشها يوماً ولم أقس صعوبتها.

 

لننظر إليهم بنظرات أكثر إنسانية مما نفعل حالياً, لنقطع مشاعر الامتهان والاحتقار .. بضحكة وابتسامة وبصناعتنا للذكريات السعيدة بيننا, ولنسعى لتقليص الفراغات التي صنعتها غربتهم بدواخلهم .. ولننظر للعمالة من حولنا بشكل أفضل مما ننظر حالياً ..!

مقالة قديمة كتبتها بتاريخ 15 ذو الحجة 1432هـ

كن إنساناً

قياسي

كثيرٌ من القصص والحكايات التي نحفظها لم نكن طرفاً فيها, لكنها في الوقت ذاته تشكل محوراً مهماً في حياتنا, ونبني عليها جُل حياتنا أو كلها أحياناً أخرى. وقد لا تملك دليلاً لإثبات قصتك سوى إيمانك بساردها وراويها, تصديقاً له حباً فيه.

من هذه القصص في حياتي ؛ حكاية تقسيم الله – سبحانه وتعالى – للمسؤوليات بين ملائكته ؛ فهذا خازن للجنة, وذاك مالك النار, وهناك أمين على الجبال وآخر للبحار .. إلخ, وصرح لهم بأنه جاعلٌ في الأرض خليفة, وأمرهم لذلك بالسجود له, معلناً تسخير كل مالديهم ليدي ذلك الخليفة كما أفهم.

المعادلة كما أراها باختصار ؛ هي أن الإنسان مسؤول عن كل الأرض ؛ تعميرها وبناءها, ونشر كل المعاني السامية فيها من حريةٍ وعملٍ وعدلٍ وحبٍ وما إلى ذلك من قيمٍ ومعانٍ.

وهذه هي قيمتك كإنسان كما أراها, كما أرى الكل يراك بها أيضاً, منتظرين منك نظرتك لنفسك بطريقة أفضل.

أنتظر منك أن تجعل لنظرة الكل وانتظارهم قيمةً ومعنىً, أن تعرف بدايةً ماذا وأين ستكون, أن تجد أجوبتك على أسئلتك الكبرى حولك أولاً .. وأنتظر منك ألا تنتظر غيرك, أنت المعني بصاحب التغيير, وأنت الوحيد الذي يمكنه الجواب على استفهاماتك.

تذكر بأن كل ما حولك ينتظر منك مساعدته بتحديد موقفك, وتذكر بأنك تقتل كل الأحلام المنتشرة حولك إن لم يكن في حياتك أهدافاً تسعى لتحقيقها .. أتصورهم جميعاً ينادوك برجاء ؛ أن كن إنساناً !

مقالة قديمة كتبتها بتاريخ 27 شوال 1432هـ

غرفة الألعاب , في زيارة

قياسي

 

نظراتنا الميتة هي تلك التي جفت بها منابع الأمل, تلك التي لم تعد تؤمن بمستقبلها وإشراقته !

 

كان طفلاً عادياً, يتابع ذات البرامج التلفزيونية التي يتابعها أي طفلٍ آخر, يحب تلك السكريات التي يتناولها الجميع بنهم, يكره تلك اللحظات التي يضطر فيها لبعض الراحة من لعبه, وكثيراً ما كان يعود سريعاً إلى ركضه المرح.

كان طفلاً عادياً بمعنى الكلمة ؛ إلا أن البشر من حوله أفقدوه تلك الروح الطفولية التي يشعر إليها بالانتماء, سرقوا منه روحه الطفولية وضحكاته التي يراها وكأنها أحد واجباته كطفل ليدع جدران المكان ترددها من بعده في سرور. نعم لم يكن طفلاً بأعين الجميع, خصوصاً من اعتاد منهم متابعة تلك المؤشرات الصحية وآثارها المخطوطة بشيء من العجلة, أولئك الذين يتابعون شعراته المتساقطة بشيء من الحزن أو الشفقة.

 

خلف اسمها المرح تختبئ “غرفة الألعاب” في سوداوية الأحزان, فذابت من جدرانها ألوانها المبهجة, واختفت عن تلك الدمى روحها التي تجعلها مصدراً للابتسامة, وحلت مكانها روح باردة غريبة, روحٌ تحركها زفرات الضيق التي يكتمها كل بغرفة الألعاب .. من قسم الأورام السرطانية بأحد المستشفيات هنا.

ووسط تلك الظلمات والمشاعر السوداوية ؛ تشع أضواء من الأمل والحب والجمال, أضواء لها أهدافها الحياتية وتطلعاتها المستقبلية الخاصة, لها قصصها النقية المتشبعة بالصدق والابتسامة, أضواء تشع عن طفولة بريئة .. لا تكترث بشدةٍ لذلك الورم الخبيث !

 

وهذه الحقيقة التي أرجو تبنيها, صحيح بأن لهم حالاتهم الطبية الخاصة والتي تستدعي بدورها اهتماماً طبياً خاصاً, إلا أنني أرجو بألا يطغى هذا الجانب على غيره من جوانب الطفل المختلفة الأخرى.

لا تمحوروا حياة الطفل على دوره كمصاب بأحد الأمراض, لا تسلبوا منه بقيته .. حدثوه عن بعض القصص الجميلة, واسمعوا منه اهتماماته البسيطة والرائعة. لا تقتلوه وهو بينكم, وأحيوا منه طفولته فيكم, لا تقتلوا نظراتكم إليه, فنظراتهم لأنفسهم ما زالت تنبض بالحياة .. تشربت معاني الحب قديماً, ففاضت علينا منها أملاً !

يوماً ما

قياسي

 

” قد لا أكون مجرد شاب عادي, من يدري ؛ قد أصنع الكثير من المستقبل الذي ننشد .. بأحد الأيام ربما “

سار  سارحاً بفكره على قارعة الطريق, شارد الذهن يفكر في خفايا مستقبله, وانحرف في نهاية ذاك الشارع الكئيب عن طريقه إلى مطعم مظلم متجهاً إلى طاولة لا يكاد يصلها الضوء, واتكأ عليها بطريقة تبدو غريبة بعض الشيء, متنقلاً ببصره بين الأوجه من حوله, في محاولة لتفرّس ما تخفيه تلك الأوجه من آراءٍ عنه ؛ ” هل يعتقدون بما أعتقده عن نفسي ؟ أيرونني عظيماً في مستقبلي ؟ أو بأحد الأيام , ربما “.

هل حدثت نفسك يوماً باحتمالية كون الطفل الواقف هناك عظيماً يوماً ما ؟

هل حدثت نفسك يوماً باحتمالية رؤيتك لذاك الطفل الذي رأيته يتسلق لتوه أرفف متجرٍ هناك قاصداً إحدى سلعه المعروضة مغيّراً للواقع الذي نرجوا تغييره ؟

هل حدثت نفسك يوماً باحتمالية كون الطفل الذي اعتدت رؤيته بشكل مستمر قائداً أو مرجعاً في أحد مجالات الحياة ؟

بعقليته الطفولية ؛ كان يستاء ممن يلقي التحية على من حوله ويتجاهله لمجرد كونه صغير سن غير مهم, أو ممن يعرض عن مساعدته في أمرٍ ما لمجرد أنه طفل صغير ليس إلا, أو من أولئك الذين يرفضون تصديقه في أحاديثه لمجرد كونه صغيراً لا يعي ما حوله في اعتقادهم !

كان يغضب من كل من تبدو على تصرفاته استصغاراً لصغار السن, كان دائماً ما يردد بشيء من الحنق والطفولية : ” يوماً ما لن تتجاهلونني, يوماً ما ستفتخرون بتلك اللحظات التي جمعتنا معاً, يوماً ما “.

كان يسرح بخياله وهو يقرأ سير الأعلام, ويتخيل نفسه بينهم ومنهم يوماً ما, حالماً بأناس يتدارسون صفحات تحكي عنه هو. حتى أن أحدهم حاججه يوماً فسأله متهكماً : ” أأنت أعظم أم ذاك العالم العلم ؟”, فأجابه بشيء من الاعتزاز أو الغرور : “لا تدري ؛ قد أكون أنا .. يوماً ما”.

شخصياً ؛ أنزعج بشدة من تلك النظرة التي نغطي بها صغار السن, وأعتقد بأنه من الواجب علينا أن نؤمن بمن يصغرنا سناً وأن نؤمن بإمكانياتهم, وأن نساعدهم ما استطعنا ليصلوا إلى غايتهم التي اختاروها.

لنجلس إليهم نستمع إلى أحاديثهم واهتماماتهم, لندع لهم أيدينا نجري ورائهم إلى أحلامهم البسيطة, لنشعرهم بشيء من الاهتمام بهم ولنترجم بعضاً من آرائهم على أرض الواقع إعلاناً منا بإيماننا بهم .. فلربما يكون أحد العظماء لنا شاكر بالمستقبل القريب, من يدري ؟!

أبطال وأساطير

قياسي

قصة عالمية شهيرة ؛ تروي أحداثاً غربلت حال المواطنين هناك في بريطانيا العظمى, حدثت كلها بعد أن ترك حاكم البلاد لأراضيه لحاجة أو أخرى مستخلفاً في البلاد أحدهم تبين في الفصول المتقدمة للرواية دناءته وعدم جدارته بتلك المسؤولية.

كان الظلم والطغيان أسلوبا حكم الأخير, نشر ظلماته في أزقة المدينة, ووسم سكانها بالخوف واليأس, وقتل منهم إحساسهم بالكرامة والأمان ؛ فقراء مشردين وأرامل مقطوعين وغيرهم الكثير ممن يحتاج لأن يقف على أحدهم لفترة, باختصار شديد .. كان هذا حال الجميع عدا المتشبثين بالبلاط الفاخر.

فصل جديد في الرواية ابتدأ معه الأمل؛ استطاع فيها أهل الأرض كتابة الكلمة القوية بين أسطر القصة, وظهر بينهم من يتصدى للظلم والظالمين هناك, ظهر بينهم أسطورة الحركة الشعبية .. ظهر روبن هود !

تنتهي القصة بعودة الملك الأول للأرض التي يحكمها, وبإعادته للمجرى الإنساني في القصة, أعاد الابتسامة لكل روح فيها, وسكب في طرقات الأرض خيراً يجري فيها ..وتذكر الرواية بأن اسم الحاكم كان : ريتشارد قلب الأسد.

قد لا يصدقني البعض إن أخبرتكم بأن السبب الرئيسي لارتصاص صفحات الرواية كان الهزيمة النكراء لأحد الحملات الصليبية التي قادها ملكهم, وبالتحديد في معركة حطين الشهيرة. وفي الحقيقة ؛ هذا ما يخبرنا به قلم الكاتب الأول للقصة.

لن أتحدث أبداً عن دهاء الكاتب بتمجيده حاكمه بطريقة مبتكرة, في وقت أتوقع بأن الأخير كان في أمس الحاجة لمثل تلك الكلمات, لن أتحدث كثيراً فأكبر ما يدور في خيالي بعد هذه القصة هو سؤال عن حالنا مع الروايات والقصص, وعن أبطالنا الحقيقيين أو الخياليين وأدوارهم الخفية في تنشئة أطفالنا, ولماذا اختفى في عالمنا أبطالاً حتى ولو خياليين ؟

لا تلوموا أطفالنا يوماً لجهلهم بتاريخنا وأعلامه, فلا أحسبنا الأكثر تشويقاً في عرض التاريخ !

لا تلوموهم إن لم تشتعل بدواخلهم أفكار حسبناها فيهم, لأننا لم ندعم تلك الأفكار بأسلوب احترافي رائع !

لا تلوموهم قبل أن ننظر إلى حالنا في تبسيط التواريخ وحقائقه للعامة. كم أرجو بأن أجلس يوماً أقرأ رواية أو أشاهد فيلماً حققا رواجاً عالميا, يحكيان للعالم عن أساطيرنا وأعلامنا ولو كانت خيالية. وكم أتمنى بأن يكون ذلك قبل ضياع الوقت من أيدينا ؛ قبل سيطرة بعض الأفكار الغبية بأساطيرها الورقية السخيفة على الساحة الفنية العالمية, والأهم من ذلك .. على فكر وثقافة جيل جديد ..!

مقالة قديمة كتبتها بتاريخ 03 ذو القعدة 1432هـ

مشاهدٌ خمسة

قياسي
  • المشهد الأول : جميلةٌ هي تلك الثورات الشعبية، التي يحركها حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كم تبدو جميلة وهي غاضبة من كل المسيئين إليه وإلى سنته وتاريخه .. جداً جميلة !
  • المشهد الثاني : دمعة ألمٍ وحزنٍ ذرفها طفلٌ هناك على عائلته التي فقدها لتوه جراء ذاك القصف الشيطاني الذي استهدف مدينته العريقة صغيرة الحجم، دمعة ألمٍ وحزنٍ لم تجد يداً تلتقطها، ولم تلمح يداً تمسحها أو تعيد لروحها شيئاً من الأمل !
  • المشهد الثالث : نظر بشفقة وحزن إلى أبنائه وملابسهم الرثة، كم يعتصر قلبه وهو ينظر إلى جاره وإلى أبنائه وسعادتهم بهداياهم الجديدة، كم يتألم لتلك النظرات التي يغمرهم بها أبناؤه متحسرين على واقعهم المرير، مُمَنّين أنفسهم بشيء من تلك الماديات ونعيمها .. صعبٌ جداً وقوف العاجزين أمام أحبابهم وأمانيهم !
  • المشهد الرابع : لوهلة شعر بالخوف يخبط أرجاء جسده بعنف، لحظة ضرب السجان فيها الباب بعنفٍ لأول مرة. كم شعر بالكثير من الحنق والغضب تجاه مجتمعه الذي تركه بينما سعى هو لأن يرسم لهم مستقبلاً أجمل من واقعهم التعيس الذي يعيشون، لقد قتلوا فيه حماسته بتجاهلهم غير المبرر له وتخليهم عنه، سلبوا منه جُلّ معاني حياته وهو يتخيل أبناءه يسألون الغرباء لقمات يعيشون بها يوماً آخر .. حتى يخرج إليهم سليماً !
  • المشهد الخامس والأخير : جلس على كرسيّه الخشبي متكئاً عليه، ناظراً من نافذته الواسعة المطلة على مدينته مترامية الأطراف تلك، تفكر قليلاً في حالها وحال شعبها، فتمتم ساخطاً بتلقائية “منافقون”، زفر بضيق وراح يتفكر فيهم وهم يملؤون الدنيا أغانٍ في حب رسولهم الكريم واتباع دينه وقيمه، ثم هم – كما يراهم – أبعد ما يكونون عن تلك المعاني في أيامهم وتعاملاتهم. ابتسم ؛ لأنه يراهم يحاربون العلمانية علانية بينما هم يعيشونها في نفوسهم بشيء من الحماقة أو الخبث. لا يراهم مؤمنين حقاً بكل ما يتكلمون به، فلا تراهم يترجمونها على أرض الواقع، وكأن قناعاتهم كله ليست إلا مجرد صورة تتجرد من روحها .. اتكأ على عكازته قائماً، متمتماً ساخطاً بعباراتٍ غير مفهومة !

آلام وكراهيات

قياسي

كان قارئاً نهماً بشكل جنوني, لم أصدق عيناً تراه يتنقل بين صفحات الكتب ملتهماً حروف أسطرها بسرعة, كجائعٍ فُجع بكثير غذاء.

كدت أصف بالكذب أذنان تسمعانه يتكلم بتبحر واطلاع شديدين يثيران الإعجاب.

حاورته لفترة, تفكرت قليلاً .. نثرت إعجابي في الهواء لتتلاعب به نسماته, بعدما اصطدمت بحقيقة كون اطلاعه الكبير منحصراً في التقسيمات والتشعبات والتفاصيل بدلاً من فهم الفكرة الأساس لما يتحدث به ..!

شخصياً ؛ أشعر بألم شديد عند اصطدامي بأحد العارفين عن غيره أكثر من معرفته بنفسه وبأفكاره, أو من يبتدئ اطلاعه ببعض الفروع والأقسام قبل استيعابه للفكرة الرئيسة.

أتألم عندما أرى الغالبية غير متقبلة للاختلافات, ناظرةً إليها وكأنها شيطان يحرق كل ما حولنا, بدلاً من أن تكون رحمة نتراشقها بيننا. زارعين بذلك شعوراً بالكراهية نرمي به الحياة ومن يحياها.

أرى غالبيتنا متيقظين لرمي أي مغرد خارج السرب بأنواع التهم والتعميمات القاتلة, وقتلنا فينا وبأنفسنا ملامح الفكرة الأم التي اتجمعنا بسببها, ولم نرَ الدنيا سوى قوالبٍ فكرية نرمي كل إنسان منا في قالبٍ على الأقل.

لم نراها بالعموم أكثر من قوالبٍ فكرية تنتظر امتلاءها بالأسماء والعقول ..!

أعتقد بأننا يجب أن نخفي تشعباتنا لفترة في صدورنا, حتى يظهر للفكرة الأم جمالها ورونقها أو أياً من الملامح الأخرى, حتى نرى حقيقة الأفكار التي نؤمن بها بدلاً من اكتفائنا بالتقاط الفتات من هنا وهناك.

لنفهم حقيقة كون الاختلاف ليس ذوباناً في غيرنا أبدأ, هو مجرد تجمع في مساحة تجمعنا سوياً باختلاف أشكالنا.